(هذا المقال منشور فى جريدة سعودية ولكن فقد منى وسأضطر لكتابته من الذاكرة لأن حوادثه لا يمكن أن تنسى)
حكى أحد الأخوة السوريين قال: جئت إلى المملكة فى السبعينات من القرن الماضى مدرسا فى أبها وعملت لمدة خمس سنوات فكرت فيها فى الحج ولكن الفكرة - لبعض المشاغل الأسرية - لم تخرج إلى حيز التنفيذ، وجاءنا مدرسا جديدا من السودان، وفى يومه الأول وبعد التعارف سألنا: بيحجوا من وين وكيف؟ واندهشنا جميعا نحن الأساتذة من بلدان مختلفة، والبعض منا له فى المملكة سنوات ولم يفكر فى الحج، وبادرته قائلا - وأنا أشعر ببعض الندم على تأخير فكرة الحج-: ياأستاذ محمد - وهذا كان اسمه - إن شاء الله أنا أنوى الحج هذا العام، ولدى سيارة، هل تريد أن تحج معى؟ ووافق الأستاذ السودانى دون تردد قائلا: جدا..!
وفى اليوم الأول لعطلة الحج جاءنى الأستاذ محمد حاملا حقيبة صغيرة وبادرنى قائلا بعد السلام: أنا اشتريت الإحرام، إنت جاهز؟ قلت له جاهز.. وسأشترى إحرامى من الطريق، قلت له: ستكون التكلفة بالنص، البترول والزيت والزاد وغيره، ووافق بلا تردد قائلا: جدا..! وتعجبت لاستخدامه للفظ (جدا)، ولكنى فهمت أن معناها الموافقة دون تردد..!
ولما كنت لم أتعامل مع الأخوة السودانيين من قبل أضفت قائلا: ولأنى سأكون مشغولا بقيادة السيارة ستقوم أنت بالصرف وعندما نصل نتحاسب نص بالنص، ولدهشتى وافق أيضا دون تردد قائلا: جدا، ودون نقاش أو مجادلة كما تعودنا نحن السوريون فى مثل هذه المواقف، وأعطيته دفترا وقلما، كنت قد اشتريتهما مسبقا لهذه المهمة.
ولما أوشكنا على الخروج من أبها، قلت له أننا نحتاج إلى بترول وتغيير للزيت، وفاجأنى قائلا: جدا.. وابتسمت وابتسم هو، ولعله قد قرأ استغرابى لاستخدام هذا اللفظ وتكراره ولكنه لم يعلق.. وكأنه أدرك أننى فهمت معناه..
وعرجنا إلى محطة بترول، ونزل الأستاذ محمد، متأبطا الدفتر والقلم وبقيت أنا بالسيارة، وبعد قليل جاءنى ومعه شخص سودانى قدمه لى قائلا: هذا مجذوب، بلدياتى، وهو مشرف المحطة، وسلم على الرجل مرحبا، ثم قام بكل الواجبات من تغيير للزيت وتموين السيارة بالبترول وخلافه، ثم ودعنا متمنيا لنا حجا مبرورا وذنبا مغفورا، ثم أردف: ولا تنسونا من الدعاء، وودعناه وانطلقنا فى طريقنا، وسألت الأستاذ محمد: كم تكلفت هذه العملية؟ ضحك قائلا: ولا شئ! قلت له: لماذا؟ قال: الرجل بلدياتى ورفض أخذ المقابل وكلفنى فقط بالدعاء له عند الكعبة..! وتعجبت ولكنى لم أعلق، وفى منتصف الطريق صادفنا مطعما، وكانت الساعة قد جاوزت العاشرة صباحا، قلت له مارأيك نفطر هنا؟ قال كعادته مسرعا: جدا...! وابتسمت بعد أن فهمت جدا معنى لفظ (جدا)..!
كان بعض العمال من اليمنيين والبعض الآخر من الأخوة السودانيين، وأفطرنا فطورا جيدا وقد لاحظت أنه انشغل بونسة طويلة مع الإخوة السودانيين عندما وصلنا، وعندما ذهب ليغسل يديه، وودع أصحابه ثم سبقته إلى السيارة، وعندما جاء سألته: كم تكلف الفطور؟ قال: ولا شئ..! قلت له: برضه طلعوا بلدياتك؟ ولدهشتى قال: لا..لا أعرفهم.. أنا من الشمالية وهم من الجزيرة..! وقالوا لازم نكرمك أنت وضيفك وأنتم فى طريقكم للحج، وهذا واجب علينا..
اندهشت.. وقدت السيارة فى طريقنا إلى مكة، وعند مدخل مكة قلت له: نحتاج إلى بعض المأكولات الخفيفة حسب توصية أصحابنا الذين حجوا من قبل، حتى نتفرغ للصلاة فى الكعبة ولا نضيع الوقت فى البحث عن الوجبات، حيث كنا سنقضى أياما فى مكة قبل بداية الحج. قال لى: جدا..داير شنو؟ وكتبت له ورقة فيها بعض الطلبات، وعرجنا على سوبرماركت، ودخل الأستاذ وبقيت أنا أراجع مياه السيارة والزيت وبعد قليل جاء محملا بكيسين كبيرين وانطلقنا في طريقنا . قلت له: كم تكلف الزاد ؟ قال ولا شي .. وجدت هناك سوداني هو المسئول عن السوبرماركت قلت له : بلدياتك ولامن الجزيرة ؟ قال لي مبتسما: ولا بلدياتي ولا من الجزيرة ..واندهشت !! وقلت له باللهجة السودانية التي تعلمتها منه أمال من وين ؟ قال : عند التعارف تبين أنه درس مع أخي الإبتدائي في دنقلا قلت : شو دنقلا هذا ثم أردفت وأنا مندهش : أنتو في السودان بتعتبروا حكاية (درس مع أخوك ) دي علاقة قال لي مبتسماكيف؟ الزول طلع زولنافأخذت منه الدفتر والقلم وألقيته في درج السيارة وأنا أقول له: الحقيقة وضعتني في حيرة طول حياتي .....