جدي الشيخ العلامة ... عندما ضحك .. وعندما بكي
بعد حادثة العقرب بفترة بلغنا وفاة إبن عمنا (آدم) يرحمه الله رحمة واسعة (بتوندي ). عندما وافقت والدتي أمد الله في عمرها الذهاب معها فرحت كثيرا مع إنها دار حزن وعزاء وبكاء لأنني حتي هّّّّّذه اللحظة كان حدي (هندكة) مع أنني عشت قبله عامين من طفولتي في مدينة (طوكر) بشرق السودان .
عندما وصلنا تلك القرية الوادعة كان كل همي البحث عن أقراني لنلهو ونلعب.إنها الطفولة من يلهو معي في تلك الرمال الناعمة التي تحيطها من كل جانب إبن عمي حبيبي وزميلي (أنور) إبن المرحوم غير آبهين بالفجيعة التي هزت أركان الأسرة لأنه فارق هذه الحياة الفانية وهو في ريعان شبابه بعد أن فجر سيلا من لواعج الحزن والأسي في الأسرة الممتدة لفترة من الزمن.
بعد صلاة العصر حان موعد الرجوع لقرقود بدأت الوالدة بالبحث عني وقتها كنا وصلنا منحني النيل جهة الشمال الغربي . كانت الأوامر من والدتي أن أرجع مع جدي الشيخ المغفور له بإذن الله في حمار واحد واللحاق بدروس (الخلوة) في اليوم التالي . الحقيقة لم أكن أدري وقتها سبب بقاء والدتي لوحدها وعدم رجوعها معنا حتي علمت فيما بعد أن جدتي أم والدي (خديجة حاج نور) من توندي من الأبوين .
كان همي الركوب مع جدي وهو رجل له مهابة وملامح خاصة جدا... وقور يمشي وتمشي معه القيم الجميلة أينما حل . كنت أراه جبلا أشم وما نظرت إلي وجهه إلا خلسة . لم أره يضحك .. ولم أره يبكي.. أسطوري الملامح والهوي .. صارما... ثاقبا... جادا...
في رحلة العودة ركبت معه الحمار وأنا أرتعد . جلست في مؤخرة ظهر الحمار وهو أمامي في سرج أنيق . ومضينا فوق رمال ثم جبال وأنا فخور أتأمل قرص الشمس عند الغروب وهي توشك علي الرحيل بين سلسلة من الجبال المتراصة . بعد مسافة قصيرة شعرت بالحمار ينحدر رويدا .. رويدا إلي الجهة اليسري حيث الطريق الموازي لمجري النيل واختفت أشعة الشمس قليلا وبالرغم منظر الغروب يستهوي البعض ويحزن الآخرين أنا كنت من هؤلاء الآخرون وبالذات في مثل هذه الأماكن المخيفة وفي مثل هذه السن. ولا أخفي أنني كنت شديد الخوف لكل شيئ مخيف أراه أو أسمعه.. ولم لا أخاف فالأنبياء يحافون ألم يخاطب المولي موسي عليه السلام بقوله (فخرج منها خائفا يترقب)
ربما سائل يسألني أنت مع من حتي تخاف ؟.
لا يفوته من هو في سني أو أصغر قليلا عن الحكاوي التي كنا نسمعها ونحن صغار من حبوباتنا وأقراننا . بدأ جدي يقرأ مع المغيب بصوت خافت لكنني كنت أسمعه وبصعوبة . وأنا أمضي معه في خشوعه لكنني في معظم الأوقات كنت أسافر منه بعيدا . ونحن في الطريق تمر بنا المشاهد معظمها مخيفة .. أشجار كثيفة وموحشة .. نخيل متراصة .. جبال ووديان .. ونقيق ضفادع تصم الآذان بسمفونية رائعة لكنها مخيفة وجدي مازال يواصل قراءته .
طوال هذه الرحلة كان يشغلني حكاوي حبوباتنا وأقراننا(يا حليل أيام الحبوبات) عن السحار (الدقر ) الذي يخرج من البحر أيام الدميرة ويخرج ذنبه عندما تناوله شاي به حليب ..وعن عيونه الحمراء المشقوقة من أعلي إلي أسفل .. وكنت أتخيل ( ود الدلم) الذي يمص أنوف الأطفال حتي الموت.. أما عن الجن فكنت أتخيل مقابلتنا لمجموعة منهم من الرجال والنساء والأطفال بأرجل حمير. كان يختلط علي الواقع والخيال فيتداخلان فصوت جدي صارما كما وجهه يعلو حينا ويخفت حينا .
فجأة ظهر خور كبير موحش وعلي الطرف الآخر مبني مهجور وبدأ الحمار بطيئ الخطي .. إرتعدت خوفا .. فجدي ربما لاحظ حركة الحمار وتوقف للحظة من الحوقلة وقراءة القرآن فقلت له خائفا ولأستبين الأمر ( جدي ليه وقفت ما تقرا) فإذا بصوته يأتي مريحا ...قويا كعادته لكنه هذه المرة مرحا وضاحكا بددت عني كل المخاوف .. لا أدري سبب ضحكته العاليه ربما إحساسه بحالتي وخوفي ..أو لربما أول شخص يقول له (إقرأ) وهو الذي يقول لكل الأجيال إقرأ,, أو ضحك لأمر آخر لا أدري.
نعم ضحك مزلزلا ولم يكتفي بالإبتسامة .. ضحكة خلتها آتية من تاريخ قديم كأنها صنعها خصيصا لي في تلك اللحظة إنه جدي يضحك لأول مرة أراه , تلك الضحكة التي من فرحتي بها نسيت الجن وأرجل الحمير ومعه الدقر وود الدلم .........
وللقصة بقية لأنه أبكاني مثلما أضحكته ولكن بعد 15 عام بالتمام والكمال