ما سر الفوضوية في حياة المبدعين؟!!
غالباً ما تتسم نظرة العامة إلى سلوك العباقرة من ذوي الرأي والمبدعين في أيما مجال كان بعين كليلة فيها شيء من التسطيح و الضبابية، على أنه سلوك عبثي مفعم بالفوضى والتخبط في مس من الجنون، باعتبارهم كثيري الخروج عن جادة التيار العام لنصوص الأمر الواقع ولعل ذلك في محاولات شاطحة أحياناً للفكاك من لزومية سير القطيع على درب واحد بوقع الحافر على الحافر، أو التغريد خارج السرب. ولعل تلك النظرة المعممة مبنية أصلاً على فرضية نمطية مغلوطة بالأساس، وهي أن الأبداع بكافة فنونه وآدابه ما هو إلا مرآة مصقولة أو كاميرا نزيهة عليها فقط أن تقوم بعكس الضوء كما هو من بؤر الأمر الواقع و سرد تفاصيله بشفافية عالية و دون خذف أو إضافة أو هكذا ينبغي أن تكون؛ بينما الصواب والمفترض أن يكون ثابتاً علمياً و راسخاً عقلياً هو أن تكون حالات الإبداع بمثابة رعشات معبرة بصدق عن وجود نوع من الرتابة و دواعي الضجر و التململ جراء صيرورة الأمور أمراً واحداً ثابتاً عصياً على إي تحول أو زحزحة ، شأنه في ذلك شأن عشق عذري عقيم بحيث لا ينجب أطفالاً ، لدرجة تصيب بعاهات من الشلل العاطفي الوجداني تصاحبه نوبات من الانفصام على الذات و الإخصاء الذهني ، و تدفع المبدع للانزواء في مغارة مجهولة من وادي عبقر، أو على الأقل ، إن لم يستطع أن يسعى قصارى جهده لتفكيك أوصال محيطه العقيم إلى خردة حدادة فلسفية ، على أمل أن يعيد تركيبها بدرجة من النضج ترضي في أسوأ الفروض طموحه الوثاب. وهو ما قد يفسر لنا نظرية أن أفق المبدع يظل دوماً أوسع من عنق رحم الأمر القائم من حوله، و أن خصوبة خياله أعلى من مدارك الحقيقة. كمن يقوم مثلاً بتأدية لحن للحقيبة في ثوب جديد و قالب توزيعي مبتكر يحمله بصمات رؤية إبداعية مستلهمة من ظرف مختلف ، دون أن يشيح أنظارنا كمتلقين بالضرورة عن ألق اللحن القديم المشبع بنكهة أصالة يتكشف ألقها عبر حنجرة الكاشف و يغني عليها سرور .
يذكر في هذا السياق أن مخرجاً مسرحياً نظر في من حوله من محترفين عمن يؤدي له دور شخصية أمير المؤمنين، لنقل مثلاً، هشام بن عبد الملك؛ ولما لم يوفق لذلك اهتدى بالعدم إلى صبي بسيط لعله من المشردين ( أبناء الشارع) كان توسم فيه السمات الكلية للشخصية المرادة ، ثم قام بإخضاعه لبروفات التمثيل اللازمة، إلى أن أتقن حفظ دوره الذي لم يتعد نطقه بعبارة من كلمتين فقط "دعه يدخل"، بحيث يقولها حين يأتيه الحاجب ليقول: مولاي، إن أحداً جاء يلتمس أن تأذن له بالدخول. ولكن الصبي لدى صعوده الخشبة ولشعوره برهاب مواجهة الجمهور، تعذر على لسانه جريان العبارة المكتوبة(دعه يدخل) أمام ذهول جموع المتفرجين وسخط مخرجه الذي كاد يسقط في يده .. ولكنه بعد لئي شديد تصرف ليجد مخرجاً من الحرج و قال: "ياخي خليه يخش" فهاجت القاعة المكتظة بمن كان فيها ضحكاً؛ ثم صعد المخرج ليحمل الصبي على كتفيه ويثني على عبقريته في الخروج بهم من جو ركاكة النص التقليدي الرتيب.
.