منتديات العريجا
مرحبا بك في منتديات العريجا سجل معنا وكن عضوا فاعلا
منتديات العريجا
مرحبا بك في منتديات العريجا سجل معنا وكن عضوا فاعلا
منتديات العريجا
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.



 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول
المواضيع الأخيرة
» البيت محروس وستو تكوس !!!
الفصل الثاني من رواية عرس الزين Emptyالإثنين 07 يناير 2019, 9:08 pm من طرف عبدالرحمن قدالة

» من أخطاء المتصوفة وتجاوزاتهم
الفصل الثاني من رواية عرس الزين Emptyالثلاثاء 05 يونيو 2018, 8:55 pm من طرف عبدالرحمن محمد

» ابو مصعب
الفصل الثاني من رواية عرس الزين Emptyالأحد 14 يناير 2018, 6:39 pm من طرف Ismail

» الجاك إبراهيم الشايقي (أمير ظرفاء العريجاء)
الفصل الثاني من رواية عرس الزين Emptyالأحد 10 ديسمبر 2017, 1:08 pm من طرف Ismail

» مسدار أخوالي صباحي ورحمة
الفصل الثاني من رواية عرس الزين Emptyالإثنين 27 نوفمبر 2017, 3:47 pm من طرف Ismail

» بامبيدو يا درة بلدنا الجميلة
الفصل الثاني من رواية عرس الزين Emptyالإثنين 27 نوفمبر 2017, 3:18 pm من طرف Ismail

» مسدار أبو الهيثم (فضل المرجي)
الفصل الثاني من رواية عرس الزين Emptyالأربعاء 22 نوفمبر 2017, 9:42 pm من طرف Ismail

» مسدار أبواتي العرواب الأماجد
الفصل الثاني من رواية عرس الزين Emptyالخميس 19 أكتوبر 2017, 1:22 pm من طرف Ismail

» مسدار السلفية الملتزمة
الفصل الثاني من رواية عرس الزين Emptyالأربعاء 18 أكتوبر 2017, 5:59 pm من طرف Ismail

أفضل 10 أعضاء في هذا الشهر
لا يوجد مستخدم

 

 الفصل الثاني من رواية عرس الزين

اذهب الى الأسفل 
2 مشترك
كاتب الموضوعرسالة
صخر حدباي الامين

صخر حدباي الامين


عدد المساهمات : 34
تاريخ التسجيل : 15/10/2010
العمر : 36
الموقع : India

الفصل الثاني من رواية عرس الزين Empty
مُساهمةموضوع: الفصل الثاني من رواية عرس الزين   الفصل الثاني من رواية عرس الزين Emptyالثلاثاء 20 نوفمبر 2012, 7:24 am

تدفقت في جسم الزين النحيل قوة مريعة جبارة لا طاقة لأحد بها أهل البلد جميعا يعرفون هذه القوة الرهيبة ويهابونها ، وأهل الزين يبذلون جهدهم حتى لا يستعملها الزين ضد أحد . أنهم يرتعدون روعا كلما ذكروا أن الزين أمسك مرة بقرني ثور جامح استفزه في الحقل ، أمسك به من قرنيه ، ورفعه عن الأرض كأنه حزمة قش وطرح به ثم ألقاه أرضا مهشم العظام ، وكيف أنه مرة في فورة من فورات حمساة قلع شجرة سنط من جذورها وكأنها عود ذرة . كلهم يعلم أن في هذا الجسم الضاوي قوة خارقة ليست في مقدور بشر : وسيف الدين .. هذه الفريسة التي انقض عليها الزين الآن ، أنه لا محالة هالك واختلطت أصواتهم برهة . كان الزين يردد في غضب ( الحمار الدكر لازم أكتله ) - والحمار الدكر أقصى ذم يلحقه الزين برجل . وارتفع صوت عبد الحفيظ في توتر وخوف : ( الرسول الزين عليك الله خليه ) . وأخذ محجوب يشتم في يأس . وكان أحمد إسماعيل أصغرهم سنا وأقواهم ، ولما أعيته الحيلة عض الزين في ظهره . وكان الطاهر الرواسي رجلا مشهورا بقوته ، كان في بحثه عن السمك في الليل يعوم النيل ذهابا وجيئة ويغطس في الماء نصف الساعة فلا ينقطع نفسه . لكن قوته لم تكن شيئا بجانب الزين . وفي ضوضائهم سمعوا شخيرا يصدر من حلق سيف الدين وأوه يضرب برجليه الطويلتين في الهواء . وصاح محجوب : ” مات كتله ” .لكن صوت الحنين ارتفع هادئا وقورا فوق الضجة : ( الزين . المبروك . الله يرضى عليك ) وانفكت قبضة الزين ووقع سيف الدين على الأرض هامدا ساكنا ووقع الرجال الستة دفعة واحدة . فقد فاجأهم صوت الحنين وباغتهم الزين بسكوته المفاجئ فكأن حائطا أمامهم كانوا يدفعونه ، إنهد بغته ، ومضت برهة قصيرة جدا ، مقدار طرفة العين ساد فيها صمت كامل ، لا بد أنه كان صمتا مزيجا من رعب وحيرة وأمل ، بعد ذلك جاشت الحياة فيهم مرة أخرى وتذكروا سيف الدين ، أنكبت رؤوسهم عليه ، ثم صاح محجوب بصوت فرح مرتعش ( الحمد لله . الحمد لله ) وحملوا سيف الدين ووضعوه على كنبة أمام دكان سعيد وفي أصوات متوترة خافتة أخذوا يعيدونه إلى الحياة حينئذ فقط تذكروا الزين فرأوه جالسا على مؤخرته ويداه بين ركبتيه مطأطئاًَ رأسه ، وكان الحنين قد وضع يده على كتف الزين في حنان بالغ ، كان يتحدث إليه في صوت حازم لكنه مليء بالحب : ( الزين المبروك . ليه عملت كده ؟ ) . وجاء محجوب وانتهر الزين ، لكن الحنين نظر إليه نظرة أسكنته . وبعد برهة قال محجوب للحنين : لو ما كت جيت يا شيخنا كان كتله ، وانضم إليهم أحمد إسماعيل والطاهر الرواسي ، وبقي عبد الحفيظ وسعيد التاجر وحمد ود الريس مع سيف الدين ، وبعد برهة قال الزين وهو ما يزال مطأطئ الرأس ، مرددا كلام محجوب : ” إن كت ما جيت يا شيخنا كت كتلته ، الحمار الدكر ، وقت ضربني في رأسي بالفأس قايل ماش اسكت له ” . لم يكن في صوته غضب ، كان صوته أقرب إلى مرحه الطبيعي منه إلى الغضب ، وسرت في الحاضرين رعشة مرح خفيفة ، لكنهم ظلوا صامتين ، وقال الحنين : ” لكين أنت ما كت غلطان ؟ ) . وظل الزين صامتا ، فقال الحنين مواصلا كلامه ( متين سيف الدين ضربك بالفأس في رأسك ؟ فأجاب الزين ضاحكا ووجهه مشبع بالمرح : ( وصت عرس أخته ) . واستمر الحنين وفي صوته هو الآخر رنة مرح : ( شن سويت لي أخته يوم عرسها ؟ ) . أخته كانت دايراني أنا . مشو عرسوها للراجل الباطل داك ) وضحك أحمد إسماعيل بالرغم منه . وقال الحنين في صوت أكثر رقة وحنانا : ( كل البنات دايرتنك يا لمبروك . بارك تعرس أحسن بت في البلد دي ) . وأحس محجوب بخفقة خفية في قلبه . كان فيه رهبة دفينة من أهل الدين ، خاصة النساك منهم أمثال الحنين . كان يهابهم ويبتعد عن طريقهم ولا يتعامل معهم . وكان يحاذر نبوءاتهم ويحس بالرغم من عدم اهتمامه الظاهري ، بأن لها أثرا غامضا . ( نبوءات هؤلاء النساك لا تذهب هدرا ) ، يقول في سره لعل هذا هو الذي جعله يقول بصوت مرتفع فيه رنة واحتقار : ( منو البتعرس البهيم دا ؟ كمان على العلية ، داير يجيب لنا جنيه ) . ونظر الحنين إلى محجوب نظرة صارمة ، ارتعدت لها فرائض محجوب لولا أنه تشجع ، وقال : ( الزين مو بهيم الزين مبروك ، باكر يعرس أحسن بت في البلد ) . وفجأة ضحك الزين ضحكة بريئة ، ضحكة طفل ، وقال ( كت داير أموته ، الحمار الدكر يفلقني بالفاس علشان أخته دايراني أنا ؟ ) فقال الحنين يحزم : ( دحين دايزنك تصالحه . خلاص الفات مات ، هو ضربك ، وأنت ضربته ) . ونادى سيف الدين ، فجأة بقامته الطويلة وحوله سعيد وعبد الحفيظ وحمد ود الريس . فقال الحنين للزين ( قوم سلم فوق رأسه ) . فقام الزين دون أي اعتراض وأمسك برأس سيف الدين وقبله ، ثم أهوى على رأس الحنين وأشبعها قبلا وهو يقول : ( شيخنا الحنين . أبونا المبروك ) وكانت لحظة مؤثرة أثارت الصمت في نفوس أولئك الرجال ، ودمعت عينا سيف الدين وقال للزين : ( أنا غلطان في حقك ، سامحني ) وقام وقبل رأس الزين ثم أمسك بيد الحنين وقبلها ، وجاء الرجال كلهم ، محجوب ، وعبد الحفيظ وحمد ود الريس ، والطاهر الرواسي ، وأحمد إسماعيل ، وسعيد التاجر ، كل واحد منهم أمسك بيد الحنين في صمت وقبلها . وقال الحنين بصوته الرقيق الوديع : ( ربنا يبارك فيكم ربنا يجعل البركة فيكم ) ووقف وأمسك إبريقه في يده . فسارع محجوب يستضيفه : ( لازم تتعشى معانا الليلة ) لكن الحنين رفض بلطف وقال وهو يمسك بيده الأخرى كتف الزين : ( العشا في بيت المبروك ) ، وغابا معاً في الظلام . رف على رأسيهما برهة قبس من ضوء المصباح المعلق في دكان سعيد ، ثم انزلق الضوء عنهما كما ضوء المصباح المعلق في دكان سعيد . ثم انزلق الضوء عنهما كما ينزلق الرداء الحريري الأبيض عن منكب الرجل . ونظر محجوب إلى عبد الحفيظ ونظر سعيد إلى سيف الدين ، ونظروا كلهم بعضهم إلى بعض وهزوا رؤوسهم بعد هذا الحادث بأعوام طويلة ، حين أصبح محجوب جداً لأحفاد كثيرين . كذلك أصبح عبد الحفيظ والطاهر الرواسي والباقون ، وحين أصبح أحمد إسماعيل أبا وصارت بناته للزاوج ، كان أهل البلد - وبينهم هؤلاء - يعودون بذاكرتهم إلى ذلك العام ، وإلى حادث الزين والحنين وسيف الدين الذي وقع أمام دكان سعيد ، الذين اشتركوا في ذلك الحادث يذكرونه برهبة وخشوع ، بما فيهم محجوب الذي لم يكن يأبه لشيء من قبل ، لقد تأثرت حياة كل واحد من أولئك الرجال الثمانية ، يستعيدون فيما بينهم . آلاف المرات تفاصيل الحادث . وفي كل مرة ، كانت الحقائق تتخذ وقعا أكثر سحرا . يذكرون في عجب كيف أن الحنين هل عليهم من حيث لا يعلمون ، في اللحظة ، عين اللحظة ليس قبل ولا بعد ، حين ضاقت قبضة الزين على خناق سيف الدين وكادت تودي به ، بل أن بعضهم يجزم أن سيف الدين قد مات بالفعل : لفظ نفسه الأخير ، ووقع على الأرض جثة هامدة ، وسيف الدين نفسه يؤكد هذا الزعم ، يقول أه مات بالفعل ، وفي اللحظة التي ضاقت فيها قبضة الزين على حلقه ، يقول أنه غاب عن الدنيا البتة ، ورأى تمساحا ضخما في حجم الثور الكبير فاتحا فمه . وانطبق فكا التمساح عليه ، وجاءت موجة كبيرة كأنها الجبل فحملت التمساح في هوة سحيقة ليس لها قرار ، في هذا الوقت ، يقول سيف الدين أنه رأى الموت وجها لوجه ، ويجزم عبد الحفيظ ، وقد كان أقرب الناس إلى سيف الدين حين عاد إلى وعيه ، أن أول كلمات فاه بها ، حين جاش النفس في رئتيه من جديد ، أول شيء تفوه به حين فتح عينيه ، أنه قال : ” أشهد إلا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله “

ومهما يكون فمما لا شك فيه أن حياة سيف الدين ، منذ تلك اللحظة ، تغيرت تغيرا لم يكن يحلم به أحد ، كان سيف الدين الابن الوحيد للبدوي الصائغ - سمي الصائغ لأن تلك كانت حرفته في بداية حياته ، ولما أثرى ولم يعد صائغا لصق به الاسم فلم يفارقه ، كان البدوي رجلا موسرا ، ولعله أثرى رجل في البلد ، جمع بعض ثروته بعرق جبينه ، من الصياغة والتجارة والسفر ، وبعضها آل إليه عن طريق زوجته . كان كما يقول أهل البلد . رجلا ( أخضر الذراع ) لا يمس شيئا إلا تحول بين يديه إلى مال ، في أقل من عشرين عاما ، كون من العدم . ثروة بعضها أرض وضياع ، وبعضها تجارة منتشرة على طول النيل من كرمه إلى كرمه ، وبعضها مراكب موسقة بالتمر والبضائع تجوب النهر طولا وعرضا ، وبعضها ذهب كثير تلبسه زوجته وبناته في شكل حلي يملأ رقابهن وإيديهن . ونشأ سيف الدين ولداً واحداً بين خمس بنات ، تدلله أمه ، ويد لله أبوه ، وتدلله أخواته الخمس . فكان لا بد أن يفسد ، أو كما يقول أهل البلد ، كان لا بد أن ينشأ هشا رخوا ، كالشجيرة التي تنو في ظل شجرة أكبر منها . لا تتعرض للريح لا ترى ضوء الشمس ، مات البدوي وفي حلقه غصة مريرة من ابنه . أنفق عليه مالاً كثيراً لكي يتعلم . فلم يفلح وأنشأ له متجراً في البلد فأفلس في شهر ، ثم الحقه بورشة ليتعلم الصناعة فهرب . وبعد لأي ، ووساطة وتشفع نجح في تعيينه موظفا صغيرا في الحكومة لعله يتعلم كيف يعتمد على نفسه . لكن لم تمضي أشهر حتى جاءته الأنباء تترى . من أفواه الأعداء والأصدقاء . من الشامتين والمشفقين على السواء أن ابنه يبيت ليله كله في خماره ولا يرى المكتب إلا مرة أو مرتين في الأسبوع . وأن رؤساءه أنذروه مراراً وهددوا بفصله من العمل ، فسافر الرجل إلى المدينة وعاد يسوق ابنه كالسجين وحلف ليسجننه طول حياته في الحقل - كالعبد الرقيق . هكذا قال .

ومضى عام على سيف الدين وهو يجمع العلف للبقر ويرعى الماشية على أطراف الحقل سحابة نهاره . يزرع ويحصد ويقطع ويتأوه . ومع ذلك فلم يعدم تلسية بالليل . كان يعرف أماكن صنع الخمر . ويصادق الجواري اللائي يصنعنها - ( الخدم ) : كما يقول أهل البلد كن رقيقا أعطي حريته . بعضهن هاجرن من البلد وتزوجن بعيدا عن موطن رقهن ، وبعضهن تزوجن الرقيق المعتقين في البلد وعشن حياة كريمة بينهن وبين سادتهن السابقين ود وتواصل وبعضهن لم تستهوهن حياة الاستقرار فبقين على حافة الحياة في البلد . محطا لطلاب الهوى واللذة . والحق أن مجتمع الجواري هذا كان شيئا غريبا . فيه روح المغامرة والتمرد والخروج على المألوف . هناك في طرف الصحراء بعيدا عن الحي ، تقبع بيوتهن المصنوعة من القش . بالليل حين ينام الناس . ترتعش من فرجاتها أضواء المصابيح وتسمع منها ضحكات مخمورة نشوى . ضاق بها أهل البلد فأحرقوها ، لكنها عادت إلى الحياة مثل نبات الحلفا . لا يموت . وطردوا سكانها وعذبوهم بشتى السبل . لكنهم لم يلبثوا أن تجمعوا من جديد كالذباب الذي يحط على بقرة ميتة

وكم من شاب مراهق ، خفق قلبه في جنح الظلام حين حمل إليه الليل ضحكات الجواري وصياح المخمورين . في تلك ( الواحة ) على حافة الصحراء . بشيء مخيف ، لذيذ رهيب ، يغري بالاستكشاف . ولم يكن عسيرا على سيف الدين أن يجد طريقه إليها . هنالك كان يقضي لياليه ، وكانت له من بينهن خليلة . كل هذا تحمله أبوه في صبر . كانت الأخبار تأتيه ، فكان يتغاضى أحيانا ، وأحيانا يثور . لكن صبره نفذ حين جاء سيف الدين ذات ليلة ، وهو على سجادته بعد صلاة العشاء . كان تفوح من فمه رائحة الخمر ، وقال له ، بصوت أجش من فعل الشراب والسهر ، أنه يحب الساره ( إحدى الجواري ) ويريد أن يتزوجها ، اسودت الدنيا في وجه الرجل وفقد صوابه ، ابنه الوحيد سكران ، فاسق ، يقول له ، وهو على مصلاته ، أنه ” يحب ” - الكلمة التي تثير في عقول الآباء في البلد كل معاني البطالة والخمول وعدم الرجولة - وأنه يريد أن يتزوج جارية ماجنة فارغة العين … قام الأب وهو بين الحياة والموت . وحلف الأب أن الولد الفاسق - هكذا قال - لا يبيت ليلة واحدة تحت سقف بيته ، وأنه ليس ابنه وأنه براء منه . قضى سيف الدين ليلته في بيت خاله ، وفي الصباح اختفى . وعاش البدوي الصائغ بقية حياته مثل رجل به عاهة . كان الألم يحز في قلبه ، ووجهه معروق كوجوه المرضى بالسل ، كان يقول أن ابنه مات ، وكان أحيانا إذا خانه لسانه وذكر ابنه ، يذكره كأنه مات بالفعل .

وكانت تترى على البلد أخبار مريعة عن سيف الدين ، كيف أنه سجن في الخرطوم بتهمة السرقة وكيف أنه اتهم مرة بقتل رجل في بور سودان وكاد يشنق لولا أنهم وجدوا القاتل الفعلي في النهاية وكيف أنه يعيش ” صائعا ” سفيها فاسقا مع العاهرات في كل مدينة يحل فيها . يقولون مرة أنه يعمل حمالا يحمل بالات القطن على ظهره في الميناء . ومرة يقولون أنه يعمل سواقا لسيارة شاحنة بين الفاشر والأبيض وأحيانا يقولون أنه يزرع القطن في طوكر ، وحاول أعمامه وأخواله إقناع أبيه بأن يكتب وصية يترك فيها ثروته كلها لزوجته وبناته . كل الرجال العقلاء في البلد أمّنوا أيضا على صواب هذا الرأي لكن الأب كان يتهرب دائما ويتعلل بأنه سيفعل ذلك حين يدنو أجله ، وأنه ما زال قويا لا حاجة به إلى كتابة وصية . لكن الرجال العقلاء كانوا في مجالسهم يهزون رؤوسهم حسرة ، ويقولون أن البدوي ما زال يأمل أن ابنه سيعود إلى صوابه . شيء ما : لم يفهمه أهل البلد ، منع الرجل من اتخاذ الخطوة الحاسمة : حرمان ابنه من الميراث

وفي ليلة من ليالي شهر رمضان ، مات البدوي على مصلاته بعد أن صلى التراويح . كان رجلا طيبا فمات ميتة كل الرجال الطيبين : في شهر رمضان ، في الثلث الأخير منه ، وهو الثلث الأكثر بركة ، على مصلاته ، بعد أن صلى التراويح ، وهز أهل البلد رؤوسهم وقالوا ” يرحم الله البدوي . كان رجلا طيبا . كان يستاهل أبناء خيرا من ابنه الفاسق ذاك ” . وذات يوم . والناس ما زالوا على ( فراش البكاء ) وقد فرغوا لتوهم من إقامة ( الصدقة ) دخل عليهم سيف الدين . كان يحمل في يده عصا غليظة من النوع الذي يستعمل في شرق السودان ، ولم يكن معه متاع على الإطلاق . كان شعره منفوشا كأنه شجيرة سيال ، ولحيته كثة متسخة ووجهه وجه رجل عاد من الجحيم ، لم يسلم على أحد ، وتجنبته كل العيون ، لكن عمه الأكبر قام وبصق على وجهه ، ولما وصل النبأ بقدومه إلى أمه في الجناح الآخر من البيت وهي وسط الحريم على ( فراش البكاء ) وولولت من جديد كأن زوجها مات لتوه . وولولت أخوات سيف الدين ، وعماته وخالاته وفار جناح الحريم في البيت وماج . إلا أن العم قام إليهن وانتهرهن فسكتن .

كل هذا لم يمنع سيف الدين أن يضع يده على أموال أبيه ، كل ما استطاع عمله أعماله وأخواله أنهم خلصوا نصيب أمه وأخواته ، وبقي لب الثروة في يده . هنا أيضا تبدأ حياة العذاب لموسى صديق الزين - موسى الأعرج - كما يسميه أهل البلد . طرده سيف الدين بحجة أنه لم يعد رقيقا . وأنه ليس مسؤولا عنه . وعاش سيف الدين بعد هذا حياة مستهترة . زاد في استهتارها توفر المال في يده . كان في سفر متواصل ، ومرة في الشرق ومرة في الغرب ، يقضي شهرا في الخرطوم وشهرا في القاهرة وشهرا في أسمرا ، ولا يجيء البلد إلا لبيع أرضا أو يتخلص من ثمر ، كان نوعا من الناس لم يعرفه أهل البلد في حياتهم ، يجافونه كما يجافي المريض بالجذام . حتى أقرب الناس إليه . أعمامه وأخواله لم يكونوا يأمنونه في بيوتهم ، فسدوا الباب في وجهه مخافة أن يفسد أبناءهم أو يفسق ببناتهم ، وفي إحدى زياراته المتقطعة للبلد وجد عرس أخته - فإن أهله كانوا يتجنبون حضوره لأفراحهم ولم يكن هو بطبعه يحضر مأتما . وكاد ذلك العرس ينقلب بسببه إلى مأساة . أولاً حادثة الزين . جاء الزين كعادته في مرحه وهذره ولم يكن أحد يأبه له . لكن سيف الدين لم يعجبه ذلك فضربه بفاس على رأسه وكادت المسألة تنتهي بالسجن . لولا تدخل العقلاء من أهل البلد الذين قالوا أن سيف الدين لا يستحق الوقت الذي ينفقونه عليه في المحاكم. ثانيا : كاد العريس يغير رأيه في آخر لحظة لأنه تشاجرمع سيف الدين أخي العروس ومرة أخرى تجمع العقلاء من أهل البلد ، بما فيهم أبو العريس ، وقالوا إن سيف الدين ليس منهم ، وأن حضوره العرس شر لا يستطيعون رده . ثالثاً : في الأسبوع الأخير في حفل الزواج انهمر على الدار عشرات من الناس الغرباء الذين لم يرهم أحد من قبل . نساء ماجنات ورجال زائغو النظرات وصعاليك ، وسفهاء جاؤوا من حيث لا يدري أحد . كلهم أصدقاء سيف الدين دعاهم لحفل زواج أخته . وهنا لم يجد أهل البلد بداً من القيام بعمل . قبل أن يستقر هؤلاء الضيوف في جلساتهم إذا بصف من رجال البلد يتقدمهم أحمد إسماعيل . ثم محجوب ، ثم عبد الحفيظ فالطاهر الرواسي ، فحمد ود الريس ، وأعمام سيف الدين وأخواله ، نحو من ثلاثين رجلا في أيديهم عصي غليظة وفؤوس ، أغلقوا الأبواب عليهم وأشبعوهم ضربا . وأكثر من ضربوا منهم سيف الدين . ثم ألقوا بهم في الطريق . وبينما البلد بأسرها تضج من ذلك البلاء الذي اسمه سيف الدين ، إذا به فجأة بعد ( حادث الحنين ) يتغير كأنه ولد من جديد .

لم يصدق الناس عيونهم بادئ الأمر ، ولكن سيف الدين أخذ كل يوم يأتي بجديد . سمعوا أولا أنه ذهب من صباحه إلى أمه وقبل رأسها وبكى طويلا بين يديها . وما كادوا يستجمعون أنفاسهم حتى سمعوا أنه جمع أعمامه وأخواله وأنه تاب واستغفر أمامهم . وأنه تأكيدا لتوبته أخرج ما تبقى من ثروة أبيه من ذمته ، وجعل عمه الأكبر وصيا عليها حتى يصير هو صالحا تماما لمباشرة مسؤوليته . كاد أهل البلد يعودون آذانهم على ذلك ، حتى رأوا لعجبهم سيف الدين يدخل المسجد لصلاة الجمعة ، كان حليق اللحية ، مهذب الشارب ، ونظيف الثياب ، ويقول الذين حضروا الصلاة أنه لما سمع خطبة الإمام ، وكان موضوعها البر بالوالدين ، أجهش طويلا بالبكاء حتى أغمي عليه ، وتجمهر حوله الناس يطيبون خاطره ، ولما خرج من المسجد ، ذهب من فوره إلى موسى الأعرج وقال له أنه أخطأ في حقه وطلب صفحة وقال له أنه سيبره كما بره أبوه . وعاشت البلد شهرا أو قرابة شهر وهي تلهث كل يوم من عمل جديد قام به سيف الدين عزوفه عن الخمر ، ابتعاده عن أصدقاء السوء ، مواظبته على الصلاة انصرافه إلى إصلاح ما فسد من تجارة أبيه بره بأ‏مه . خطوبته لبنت عمه . وأخيرا عزمه على تأدية فريضة الحج ذلك العام ، وكان عبد الحفيظ ، وكان من أكثر الناس إيمانا بمعجزة الحنين ، كما تجلت في سيف الدين ، كلما سمع نبأ جديدا يسرع به إلى محجوب . وكان معروفا بجفائه لأهل الدين والنساك منهم بوجه خالص ( معجزة يا زول ، ما في اثنين ثلاثة ) ، ويصمت محجوب وهو يحس في جوفه بذلك القلق الغامض الذي يساوره إزاء هذه الحالات ( سيف الدين عزم على الحج تصدق بالله يا زول ؟ تآمن وألا ما تآمن ؟ معجزة يا زول دون أدنى شك ) كان محجوب يقول لعبد الحفيظ لما بدأت القصة أن سيف الدين شبع من السفاهة ، أو على قوله ( وصل السفاهة حدها ) ، وكان لا بد أن يتغير في يوم من الأيام ، لكنه وهو يسمع كل يوم شيئا جديدا مذهلا لم يعد قادرا حتى على الجدال ، فلاذ بالصمتكانت معجزة سيف الدين بداية لأشياء غريبة تواردت على البلد في ذلك العام . ولم يعد ثمة شك في ذهن أحد ، حتى محجوب ، وهم يرون المعجزة تلو المعجزة أن مرد ذلك كله أن الحنين قال لأولئك الرجال الثمانية أمام متجر سعيد ذات ليلة : ( ربنا يبارك فيكم ربنا يجعل البركة فيكم ) كان الوقت قبيل صلاة العشاء بقليل ، وهو وقت يستجاب فيه الدعاء ، خاصة من أولياء الله الصالحين أمثال الحنين كانت البلد هادئة ساكنة ، إلا من ريح خفيفة منعشة تلعب بجريد النخيل , إنهم جميعا . الرجال الثمانية الذين شهدوا الحادث وبقية الناس في بيوتهم وحقولهم ، يذكرون تلك الليلة بوضوح كأنها كانت ليلة البارحة وكان الظلام المخملي الكثيف يريض على أركان البلد ، عدا أضواء مصابيح خافته تسربت من نوافذ البيوت ، والضوء الساطع من المصباح الكبير في متجر سعيد . كان الوقت وقت تحول الفصول ، من الصيف إلى الخريف . يذكر سعيد صاحب الدكان أن الليلة لم تكن قائظة كسابقتها وأنه لم يكن رطب الوجه من العرق وهو يزن سكرا لسيف الدين ، وأنه لما ( وقعت الوقعة ) كما يسميها ، وترك ميزانه وخرج من دكانه ليحول بين الزين وسيف الدين ، يذكر أن نسيما باردا هب على وجهه ! ويذكر الناس الذين لم يسعدهم الحظ بحضور الحادث لأنهم كانوا يتهيأون لصلاة العشاء في المسجد ، أن الإمام تلا في تلك الليلة ، حين صلى بهم جزءا من سورة مريم ، وحاج إبراهيم ، عم الزين ووالد نعمة ، وهو رجل مشهود له بالصدق ، يذكر تماما أن الإمام قرأ الآية وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا ويصف حمد ود الريس ، وهو مشهور في البلد بسعة الخيال والجنوح إلى المبالغة ، بأن نجما له ذنب سطح تلك الليلة في الأفق الغربي فوق المقابر ، لكن أحدا غيره لا يذكر نجما له ذنب سطح في تلك الليلة ، على أي حال ، لا شك في أن الحنين ، ذلك الرجل الصالح ، قال على مسمع من ثمانية رجال ، في تلك الليلة المباركة بين الصيف والخريف ، قبيل صلاة العشاء بقليل : ( ربنا يبارك فيكم ربنا يجعل البركة فيكم ) وكأنما قوي خارقة في السماء قالت بصوت واحدا : ( آمين








بعد ذلك توالت الخوارق معجزة تلو معجزة . بشكل يأخذ باللب . لم تر البلد في حياتها عاما رخيا مباركا مثل ( عام الحنين ) عام أخذوا يسمونه صحيح أن أسعار القطن ارتفعت ارتفاعا منقطع النظير في ذلك العام وإن الحكومة لأول مرة في التاريخ سمحت لهم بزراعته بعد أن كان ذلك وقفا على مناطق معينة في القطر ( محجوب وحده ، وباعتراف منه ربح أكثر من ألف جنيه من قطنه ) ، وصحيح أيضا أن الحكومة لغير ما سبب أو لسبب خفي لا يعلمونه ، بنت معسكرا كبيرا للجيش في الصحراء على بعد ميلين من بلدهم ، والجنود يأكلون ويشربون ، فانتعشت البلد من توريد الخضروات واللحوم والفواكه واللبن للجيش حتى أسعار التمر ارتفعت ارتفاعا ليس له نظير في ذلك العام ، وصحيح أيضا أن الحكومة هذا المخلوق الذي يشبهونه في نوادرهم بالحمار الحرون ، قررت لغير ما سبب ظاهر أيضا أن تبني في بلدتهم - دون سائر بلدان الجزء الشمالي من القطر وهم قوم لا حول لهم ولا طول ، ولا نفوذ ولا صوت يتحدث باسمهم في محافل الحكام - قررت الحكومة أن تبني في بلدهم ، دفعة واحدة مستشفى كبيرا يتسع لخمسمائة مريض ، ومدرسة ثانوية ومدرسة للزراعة ومرة أخرى عادت الفائدة على البلد ، في الأيدي العاملة ومواد البناء وتوريد الغذاء ناهيك بأن مرضاهم سيضمنون العلاج وإن إبناءهم سينالون حقهم من التعليم ، وإذا كانت كل هذه الأدلة لا تكفي ، فكيف تفسر بأن الحكومة هذا ( الحمار الحرون ) في اعتقادهم ، قررت أيضا في العام ذاته ولم يمض على وفاة الحنين أكثر من شهرين أن تنظم أراضيهم كلها في مشروع زراعي كبير تشرف

عليه الحكومة نفسها بما لها من قوة وسلطان ؟ وجدوا بلدهم فجأة تعج بالمساحين والمهندسين والمفتشين والحكومة إذا عزمت على أمر فإنها قادرة على تنفيذه فما هو إلا يوم في أثر يوم وشهر يعقبه شهر ، حتى قام على ضفة النيل في بلدهم بناء شامخ من الطوب الأحمر مثل المعبد يلقي ظلاله على النيل ، وبعد ذلك بقليل ، بين لغط العاملين وقرقعة الحديد إذا بعجلات ذلك المارد تدور ، وإذا بمصاصاته تشفط من ماء النيل ، كما يشفط الرجل الشاي ، في لمح البصر ، كميات لا تقوي عليها عشرات من سواقيهم في عشرات الأيام ، وإذا بالأرض على اتساعها من ضفة النيل إلى طرف الصحراء يغمرها الماء بعضها أراض لم تر الماء منذ أقدم السنين. وإذا بها تموج بالحياة ، كيف تفسر هذا ؟ عبد الحفيظ يعلم السر ، فهو يقول لمحجوب ، وهو يجمع بين عينيه الحقل الواسع الذي هو حقله والريح تلعب بالقمح فتثني صفوفه فكأنه حوريات رشيقة تجفف شعرها في الهواء ( معجزة يا زول . ما في أدني شك ) .

جلس الطريفي خلسة في مقعده بعد أن حدث الناظر بخبر عرس الزين ، جلس خلسة على طرف مؤخرته كأنه يتهيأ للهروب في أية لحظة ، فقد كان في سمته وطبعه شيء من سمت الضبع وطبعه . ونظر حوله بعينيه الماكرتين ، وهمس في أذن جاره من اليمين : ( نجينا الليلة من الجغرافيا ، أشارطك الناظر ما يتم الحصة ) . وكما تنبأ الطريفي أعلن الناظر في صوت فاتر غير مكترث أنه خارج لأمر عاجل : ( راجعوا الدرس بتاع منطقة زراعة القمح في كندا ) ، وخرج في خطوات متوترة ، وراقبه الطريفي ، وهو يحاول ألا يهرول حتى وصل باب فناء المدرسة ، وضحك الطريفي بخبث حين رأى الناظر يمسك بذيل عباءته في يده ، ويهرول مكبا على وجهه في الرمل .

ووصل الناظر إلى دكان شيخ علي في السوق ، لاهث النفس ، جاف الحلق ، إذ أن المدرسة لم تكن قريبة كل القرب من السوق وبينها وبينه رمل تغوص فيه القدم ، والناظر قد جاوز الخمسين ، كان دكان شيخ علي في السوق مقره المفضل . سر لما رأي عبد الصمد أيضا فقد كانت بينه وبينه صداقة مريرة ، لا يطيب له المجلس أو لعب الطاولة بدونه . وكان بينه وبين المتجر مقدار عشرة أمتار لكنه لم يطق صبرا . فبدأ يتحدث وهو مقبل عليهما : ( شيخ علي ، حاج عبد الصمد ، السنة دي سنة العجايب دا كلام أيه دا ؟ ) وأوصلته الجملة عندهم ، فأجلسوه على مقعده المفضل ، مقعد وطيء من خشب وجبال عليه مسند وله متكآت على جانبيه :

وكانت القهوة ما تزال ساخنة ، تفوح منها رائحة القرفة والحبهان والجنزبيل ، أمسك بالفنجان وقربه إلى فمه ، لكنه لم يلبث أن رده وقال : ( الخبر دا صحيح ؟ ) .

وضحك عبد الصمد وقال للناظر : ( كدى أشرب القهوة قبل تبرد . الكلام صحيح ) .

وقال الشيخ علي وهو يحرك التبغ الممضوغ من الجانب الأيمن إلى الجانب الأيسر في فمه ( حكاية عرس الزين موكدي ؟ صحيح وأبوه صحيح كمان ) .

وشفط الناظر شفطة كبيرة من الفنجان ، ثم وضعه على منضدة صغيرة أمامه وأشعل لنفسه سيجارة شد منها نفسا عميقا ( يا رجل دي سنة غريبة جدا ، وألا أنا غلطان ؟ ) لم يكن الناظر يستعمل عبارة ( زول ) أي ( شخص ) كبقية أهل البلد، بل كان يقول ( رجل ) في بداية جملة .

وقال عبد الصمد : ( كلامك صحيح جناب الناظر ، سنة عجيبة فعلا النسوان القنعن من الولادة ولدن ، البقر والغنم جابت الاثنين والثلاثة ) . وواصل حاج علي تعداد المعجزات التي حدثت ذلك العام : ( تمر النخيل كثير لا من غلبنا من الشولات النشيلة فيها الثلج نزل . دا كلام ! الثلج في ذلك العام شيئا حيرهم جميعا . ولم يستطع الناظر مع طول باعه في علم الجغرافيا أن يجد له تعليلا ، وقال الناظر : ( لكين المعجزة الكبرى موضوع زواج الزين ) -هذه كانت عادته ، يزج الكلمات الفصحى في حديثه .

وقال شيخ علي : ( الواحد ما يكاد يصدق ) كان الناظر يعديه هو وعبد الصمد بكلماته الفصحى ، فيحاولان مجاراته .

وقال عبد الصمد : ( كلام الحنين ما وقع البحر ، قال له باكر تعرس أحسن بت في البلد ) .

وقال الناظر : ( أي نعم والله . أحسن بنت في البلد إطلاقا ، أي جمال ! أي أدب ! حشمة !).

وقال عبد الصمد مستفزا : ( أي فلوس ! أنا عارفك كت خات عينك عليها عشان مال أبوها ) واحتد الناظر وهو يرد التهمة عن نفسه : ( أنا خاف الله يا رجل هذه في عمر بناتي ) .

وقال شيخ علي يسري عنه : ( عمر بناتك ايه يا شيخ ؟ الراجل راجل حتى في أرزل العمر ، والبنت من سن أربعتاشر قابلة للزواج من أي راجل ولو كان زي جنابك في الستين ) .

( خاف الله يا رجل ، أنا في الخمسين ، أصغر منك ومن عبد الصمد قطع شك ) .

وقهقهة عبد الصمد قهقته المشهور من جوف صدره وقال : ( طيب بلاش موضوع العمر ، أيه رأيك في حكاية عرس الزين ؟ )

وقال الناظر : يا رجل دا موضوع مدهش . ازي حاج إبراهيم يقبل ؟ الزين رجل درويش ماله ومال الزواج ؟ ) .

وأضاف شيخ علي أيضاً : ( رحمة الله عليه . جاب لنا الخير في البلد ) . وقال عبد الصمد : ( وكله عشان خاطر الزين ) .

وقال الناظر : ( يا رجل ما دخلنا في موضوع الكرامات ؟ لكن برضه … )

وقاطعه شيخ علي : ( مهما يكون ، الراجل راجل والمره مره ) .

وأضاف عبد الصمد : ( والبت بت عمه على كل حال ) .

صمت الناظر ، فإنه لم يجد ما يرد به على كلامهما - من الناحية الشكلية على الأقل : فكون بنت العم لابن العم حجة ليس بعدها حجة في عرف أهل البلد ، أنه تقليد قديم عندهم ، في قدم غريزة الحياة نفسها ، غريزة البقاء وحفظ النوع . لكنه في قرارة نفسه كان مثل آمنة . يحس بلطمة شخصية موجهة له ، وأحس برهة بارتياح : أن علي وعبد الصمد لا يعلمان بأنه فاتح حاج إبراهيم في أمر نعمة لو علما إذا لما استطاع أن ينجو من لسانيهما السليطين . وسأل نفسه وهو يشرب الفنجان الخامس من قهوة شيخ علي ، لماذا طلب يدها ؟ فتاة صغيرة في سن بناته . أنه لا يدري تماما . لكنه رآها ذات يوم خارجه من الدار ، ترتدي ثوبا أبيض . صادفها وجها لوجه . راعه جمالها سلم عليها بصوت مرتعش فردت سلامة بصوت هادئ رزين . قال له : ( أنت نعمة بنت حاج إبراهيم ؟ ) فقالت دون تردد أو وجل : ( نعم ) وبسرعة بحث في ذهنه عن سؤال آخر يستبطئها به قبل أن تذهب فلم يجد خيرا : ( أخوك أحمد كيف حاله ؟ ) - كان هذا أخاها الأصغر الذي كان من تلاميذه . فقالت له ووجهها الجريء قبالة وجهه : ( طيب ) ثم ذهبت … وعاش الناظر بعد ذلك ليالي وصورتها لا تفارق ذهنه . لعلها أيقظت في قلبه إحساسا دفينا . لم يذكره منذ عشرين عاما . وأخيرا لم يقو على الصبر فانتهز وعكة خفيفة ألمت بأبيها فذهب إليه بحجة عيادته . وجده وحده لحسن حظه ، وبعد حديث سطحي عن أسعار القمح وحال المدرسة ، دخل الناظر في الموضوع ، وبسرعة طلب يد نعمة من أبيها ، لم يفهم حاج إبراهيم شيئا أول الأمر ، أو لعله تغابى فاستوضح الناظر في جملة أو جملتين حزنا في نفسه قال له أولا : ( داير نعمة لي منو ؟ ) فقال الناظر بشيء من العجرفة : ( لي منو ؟ أنا طبعا ) . وكأنما حاج إبراهيم غرس خنجرا ثم ضغط على مقبضه ليثبته أكثر في قلبه حين قال له : ( ليك أنت ؟ ) خلاصة القول أن زيارته كانت خطأ فادحا . وحاول حاج إبراهيم أن يخفف عنه الوقع فألقى خطبة طويلة عن الشرف الذي أسبغه عليه الناظر بطلبه وأنه خير صهر له وو … لكن ، وهذا هو المهم ، لكن الفرق بين سنة وسن البنت يجعله لا يستطيع أن يقبل ، فهو بهذا لا يرضي ضميره ، ثم أن أخوانها سيعترضون ، وأخيرا حاول الناظر ملافاة الضرر ، فاستحلف حاج إبراهيم إلا يذكر شيئا مما دار بينهما لمخلوق ، وأن يعتبر الأمر كأن لم يكن . ( نحفر حفرة وندفنه في محله دا).

وكان حاج إبراهيم عند حسن ظنه . لكن الناظر في قراره نفسه ، على الرغم من اقتناعه بخطئة ، لم يستطع أن يتخلص من الطعم المر في حلقه ، ولما سمع بأنها ستزف للزين دون سائر الناس أحس ، الخنجر ينغرس أكثر في قلبه ، وذعر الناظر قليلا حين سمع عبد الصمد يقول له : ( جنابك ما تزعل أبدا ، إذا كنت عاوز تعرس . البلد مليانة نسوان عزبات ، المطلقة والراجلها مات أجمل نسوان علي باليمين ) .

وهنا ثار الناظر فعلا . انصب حنقه الداخلي كله على عبد الصمد : ( يا رجل أنت مجنون ؟ أنت ما تعرف تفرق بين الجد والهزار ؟ ما أنت راجل اونطة صحيح ! ) .

وقهقهة عبد الصمد بلذة عميقة ، فقد نجح في استثارة الناظر ، أنه يتصيد هذه الفرص ، لعل الذي آلمه في الموضوع ذكر النساء الثيبات ! وقال شيخ علي يزيد النار اشتعالا : ( يعني جناب الناظر لما يحب يتزوج فوق أم أولاده . يتزوج نسوان سكندهاند ؟ أما فعلا يا حاج عبد الصمد أنت راجل اونطة صحيح ) .

وتمسك عبد الصمد بكلمة ( سكندهاند ) يغيظ بها علي هذه المرة : ( قت شنو آشيخ علي ؟ سكن دهان ؟ والله عجايب ! عشنا وشفنا علي ود الشايب يتكلم الأفرنجي ) .

وضحك الناظر بإفراط محاولا قدر المستطاع تحويل الهجوم عن شخصه إلى شخص شيخ علي ، لكن شيخ علي كان عليما بنزوات عبد الصمد وحركات الناظر فتجاهل هجوم عبد الصمد وعاد بالحديث إلى موضوع زواج الزين : ( المهم زي ما قلنا العرس مو قاسي . والراجل راجل وأن كان بي رياله والمره مره وأن كانت شجرة الدر ) .

تعجب الناظر في سره كيف عرف شيخ علي اسم شجرة الدر . ووقع الاسم موقعا حسنا على أذن عبد الصمد وكان جاهلا به لكنه تحرج من السؤال مخافة أن يفضح جهله . ومضى شيخ علي يعدد لهما أسماء الرجال الذين لم يكن لهم شأن يذكر ومع ذلك تزوجوا نساء بارعات الذكاء مفرطات الحسن . استحوذ على اهتمام خصميه مدة غير قليلة من الزمن . وغمرته السعادة وهو يرى الدهشة والإعجاب يبدوان على وجهيهما . ذكرهما بقصة كثير الذي أحبته عزة على قصره وبشاعة هيئته . وقصة الأعرابية التي سألوها كيف تزوجت رجلا جلفا قميئا فقالت لهم ( والله لو .. إلخ ) وكاد الناظر وعبد الصمد يستلقيان على ظهريهما من الضحك حين سمعا ما قالته الأعرابية . ثم أشار إلى قبيلة الإبراهيمات الذين انحدروا جميعا من صلب رجل درويش يدعى إبراهيم أبو جبة ، وكيف أنه .. لكن عبد الصمد ضاق ذرعا بطلاوة لسان شيخ علي ، فقاطعه بشيء من الحدة قائلا : ( أنت رايح بعيد ليه لي كثير عزة وقبيلة الأبراهيمات ؟ عند سعيد البوم .. ماك طاري حكاية عرسه ؟ ) ابتسم الناظر ، فقد كان بينه وبين سعيد البوم مدة خاصة ، أم لعله كان يستغل سعيد في جلب الحطب والماء لبيته ؟ وكان سعيد يبيع حطب الوقود ويخدم في البيوت ، ويدخر ماله عند الناظر ، ولما أراد الزواج جاء إلى الناظر واستشاره ، وتباهى بعد ذلك أن الناظر في جلالة قدره شهد عقد زواجه . كل أحد في البلد يعرف قصة زواج سعيد ، وأنه عاش مع زوجته قريبا من الحلول لا يمسها وكادت تيأس وتطلقه وكان سعيد يقول إذا سألوه عن سبب إبطائه : ( التررن بالمهلة ) . لكنه فيما بعد على أي حال أولدها أولاد وبنات .

وفجأة لمح الناظر في خياله وجه نعمة ، ومرة أخرى أحس بالخنجر يتحرك في قلبه ، فقال وكأنه لم يسمع كل القصص التي قصها عليه شيخ علي وحاج عبد الصمد : ( لكين تتزوج الزين ؟ دا اسمه كلام يا رجل ؟ والله عجايب ! )

تأثر أمام المسجد أيضا بالحوداث العجيبة التي شهدتها القرية ذلك العام . كان رجلا ملحاحا متزمتا كثير الكلام ، في رأي أهل البلد . كانوا في دخيلتهم يحتقرونه ، لأنه كان الوحيد بينهم الذي لا يعمل عملا واضحا - في زعمهم . لم يكن له حقل يزرعه ولا تجارة يهتم بها ولكنه كان يعيش من تعليم الصبيان له في كل بيت ضريبة مفروضة ، يدفعها الناس عن غير طيب خاطر ، وكان يرتبط في أذهانهم بأمور يحلو لهم أحيانا أن ينسوها : الموت والآخرة والصلاة فعلق على شخصه في أذهانهم شيء قديم كئيب مثل نسيج العنكبوت ، إذا ذكر اسمه خطر على بالهم تلقائيا موت عزيز لديهم ، أو تذكروا صلاة الفجر في عز الشتاء ، وما يرتبط بذلك من وضوء بالماء البارد يشقق الرجلين ، وخروج من الفراش الدافئ إلى لفح الصقيع وسير في غبش الفجر إلى المسجد . هذا إذا كان الواحد منهم يذهب بالفعل إلى الصلاة . أما إذا كان مثل محجوب ، وعبد الحفيظ ، وأحمد إسماعيل ، والطاهر الرواسي ، وحمد ود الريس ، من النفر ” العصاة ” الذين لا يصلون ، فإنه يحس كل صباح بإحساس غامض يثير القلق ، من نوع الإحساس الذي يحسه الواحد منهم إذا نظر خلسة إلى امرأة جاره ، ويقول لك محجوب إذا سألته عن إمام المسجد أنه ” راجل صعب . لا يأخذ ولا يدي ” معنى ذلك أنه لم

ن يسايرهم أو يخوض معهم في أحاديثهم - لم يكن يعنيه ، كما يعنيهم ، أوان زراعه القمح وسبل ريه وسماده وقطعه أو حصاده . لم يكن يهمه هل موسم الذرة في حقل عبد الحفيظ نجح أم فسد ، وهل البطيخ في حقل ود الريس كبر أم صغر ؟ كم سعر أردب الفول في السوق ؟ هل هبط سعر البصل ؟ لماذا تأخر لقاح النخل ؟ كانت تلك أمور ينفر منه بطبعه ويحتقرها بسبب جهله بها . ومن ناحية أخرى ، كان هو يهتم بأمور لا يأبه لها إلا القليلون من البلد . كان يتتبع الأخبار من الإذاعة والصحف ويحب أن يناقش هل ستقوم الحرب أم لا ؟ هل الروس أقوى أم الأمريكان ؟ ماذا قال نهرو وماذا قال تيتو ؟ وكان أهل البلد مشغولين بجزئيات الحياة ، لا تعنيهم عمومياتها . وهكذا نشأت الهوة بينه وبينهم لكنهم إن لم يحبوه ، فقد كانوا يعترفون بحاجتهم إليه . يعترفون مثلا بعلمه ، فقد قضى عشر سنوات في الأزهر ، يقول الواحد منهم : ” الإمام ما عنده شغلة ” . ثم يضيف : ” لكن الحق لسانه فصيح كلام ” كان يلهب ظهورهم في خطبه . وكأنه ينتقم لنفسه منهم . بكلام متدفق فصيح عن الحساب والعقاب ، والجنة والنار ، ومعصية الله والتوبة إليه ، كلام ينزل في حلوقهم كالسم . يخرج الرجل من المسجد بعد صلاة الجمعة زائغ العينين ويحس وهلة كأن سير الحياة قد توقف ينظر إلى حقله بما فيه من نخل وزرع وشجر ، فلا يحس بأي غبطة في نفسه . يحس أنها جميعا عرض زائل ، وأن الحياة التي يحياها بما فيها من فرح وحزن ، ما هي إلا جسر إلى عالم آخر . ويقف برهة يسأل نفسه ماذا أعد لذلك العالم الآخر ؟ لكن جزئيات الحياة ما تلبث أن تشغل فكره : وسريعا أسرع مما كان يتوقع تغيب صورة العالم الآخر البعيد ، وتأخذ الأشياء أوضاعها الطبيعية . وينظر إلى حقله فيحس مرة أخرى بذلك الفرح القديم الذي يعطيه مبررات وجوده . ومع ذلك فأكثرهم يعودون إليه في كل مرة ليجربوا نفس الصراع الغامض . يعودون إليه لأن صوته قوي واضح وهو يخطب . عذب رخيم وهو يرتل القرآن ، مهيب حين يصلي على الأموات ، حازم عليم ببواطن الأمور وهو يقوم بعقود الزواج . وكانت في عينيه نظرة احتقار وترفع يحس الواحد منهم وقعها حين يفقد ثقته بنفسه ، كان مثل الضريح الكبير وسط المقبرة .

وكانت البلد منقسمة إلى معسكرات واضحة المعالم إزاء الإمام ( لم يكونوا أبدا ينادونه باسمه ، فكأنه في أذهانهم ليس شخصا بل مؤسسة ) . معسكر أغلبه من الرجال الكبار العقلاء يتزعمه حاج إبراهيم . أبو نعمة ، يعامل الإمام معاملة ود يشوبه تحفظ هؤلاء كانوا يحضرون كل الصلوات في المسجد ويبدو على وجوههم على الأقل أنهم يفهمون ما يقول . يدعونه إلى الغداء كل يوم جمعة بعد الصلاة كل واحد منهم يدعوه يوما بالتناوب . كانوا يدفعونه إليه بصدقة الفطر في عيد رمضان ، ويعطونه جلود الذبائح في عيد الأضحى إذا تزوج أحد أبنائهم أو بناتهم ، أعطوه حقه نقدا ومعه رداء أو ثوب . شذ عن هذا الفريق رجل في السبعين اسمه إبراهيم ود طه . لا يصلي ولا يصوم ولا يزكي ولا يعترف بوجود الإمام والفريق الثاني . وأغلبه من الشبان دون العشرين يعادي إمام المسجد عداءا سافرا . بعضهم تلاميذ في المدارس . وبعضهم سافر وعاد، وبعضهم يحس على أي حال بفيض الحياة حارا قويا في دمه فلا يحفل برجل صناعته تذكير الناس بالموت . هذا كان فريق المغامرين - منهم من يشرب الخمر سرا ويلم خفية بالواحة في طرف الصحراء - . وفريق المتعلمين الذين قرأوا أو سمعوا بالمادية الجدلية ، وفريق المتمردين ، وفريق الكسالى الذين يصعب عليهم الوضوء في الفجر في عز الشتاء . ومن عجب أن زعيم هذه الفئة كان إبراهيم ود طه ، الرجل الذي جاوز السبعين ، لكنه كان يقرض الشعر ، والفريق الثالث ، وقد كان أكثر المعسكرات وزنا فريق محجوب وعبد الحفيظ والطاهر الرواسي وحمد ود الريس وأحمد إسماعيل وسعيد .

كانوا متقاربي الأعمار ، بين الخامسة والثلاثين والخامسة والأربعين ، إلا أحمد إسماعيل فقد كان في العشرين لكنه بحكم مسؤوليته وطريقة تفكيره كان واحدا منهم . هؤلاء كانوا الرجال أصحاب النفوذ الفعلي في البلد . كان لكل واحد منهم حقل يزرعه ، في الغالب أكبر من حقول بقية الناس ، وتجارة يخوض فيها . كان لكل واحد منهم زوجة وأولاد . كانوا الرجال الذين تلقاهم في كل أمر جليل يحل بالبلد . كل عرس هم القائمون عليه . كل مأتم هم الذين يرتبونه وينظمونه . يغسلون الميت فيما بينهم ويتناوبون حملة إلى المقبرة هم الذين يحفرون التربة ، ويجلبون الماء وينزلون الميت في قبره . ويهيلون عليه التراب ، ثم تجدهم بعد ذلك في ( الفراش ) يستقبلون المعزين ، ويديرون عليهم فناجين القهوة المرة ، إذا فاض النيل أو أنهم سيل فهم الذين يحفرون المجاري ، ويقيمون التروس ، ويطوفون على الحي ليلا وفي أيديهم المصابيح يتفقدون أحوال الناس ، ويحصرون التلف الذي أحدثه الفيضان أو السيل . إذا قيل أن امرأة أو بنتا نظرت نظرة فاجرة إلى أحد ، فهم الذين يكلمونها وأحيانا يضربونها ، لا يعنيهم بنت من تكون . إذا علموا أن غريبا حام حول الحي حول المغيب فهم الذين يوقفونه عند حده . إذا جاء العمدة لجمع العوائد فهم الذين يتصدون له ، ويقولون هذا كثير على فلان ، وهذا معقول وهذا غير معقول . إذا ألم بالبلد أحد رسل الحكومة ( وهم لا يأتون إلا لماما ) فهم الذين يستقبلونه ويضيفونه ، ويذبحون له الشاة أو الخروف ، وفي الصباح يناقشونه الحساب ، قبل أن يقابل أحدا من أهل البلد ، والآن وقد قامت في البلد مدارس ، ومستشفى ، ومشروع زراعي ، فهم المتعهدون . وهم المشرفون ، وهم اللجنة المسؤولة عن كل شيء كان الإمام لا يحبهم ولكنه كان يعلم أنه سجين في قبضتهم ، إذا أنهم هم الذين كانوا يدفعون له مرتبه آخر كل شهر ، يجمعونه من أهل الحي ، كل موظف حكومة يحل بالبلد ، وكل من له حاجة يريد أن يقضيها ، سرعان ما يكتشف هذا الفريق فلا تنجح له مهمة أو يتم له عمل إلا إذا تفاهم معهم . لكنهم كانوا ، ككل صاحب سلطان ونفوذ لا يظهرون نزعاتهم الشخصية ( إلا في مجالسهم الخاصة أمام متجر سعيد ) ، الإمام مثلا كانوا يعتبرونه شرا لا بد منه فيحبسون ألسنتهم عن ذمه ما استطاعوا ، ويقومون ” بالواجب والمجاملة ” كما يقول محجوب . لم يكونوا يصلون ، ولكن واحدا منهم على الأقل كان يحضر الصلاة مرة في الشهر ، إما الظهر أو العشاء في الغالب فالفجر لا طاقة لهم به - ويكون غرض الزيارة في الواقع شيئا غير الاستماع لعظة الإمام حينئذ يعطون الإمام مرتبه ويتفقدون بناء المسجد إذا كان يحتاج إلى إصلاح .

وكان الزين فريقا قائما بذاته ، كان يقضي أعظم أوقاته مع شلة محجوب ، بل أنه كان في الواقع إحدى المسؤوليات الكبيرة الملقاة على عاقتهم كانوا يحرصون على إبعاده عن المشاكل ، وإذا وقع في ورطة أخرجوه منها ، كانوا يعلمون عنه أكثر مما تعلم أمه ، يشملونه بعنايتهم وترعاه عيونهم من بعيد . وكانوا يحبونه ويحبهم .

لكن الزين في موضوع الإمام كان معسكرا قائما بذاته ، يعامله بفظاظة ، وإذا قابله قادما من بعيد ترك له الطريق ، ولعل الإمام كان الشخص الوحيد الذي يكرهه الزين ، كان مجرد وجوده في مجلس يكفي لإثارته . فيسب ويصرخ ويتعكر مزاجه ويتحمل الإمام في وقار هيجان الزين ، ويقول أحيانا أن الناس أفسدوه بمعاملتهم له كأنه شخص شاذ وإن كون الزين ولي صالح حديث خرافة ، وأنه لو ربي تربية حسنة لنشأ عاديا كبقية الناس ، لكن من يدري ، لعله هو الآخر أحس بقلب في صدره حين حدجه الزين بإحدى نظراته ، فكل أحد يعلم أن الزين أثير عند الحنين ، والحنين ولي صالح وهو لا يصادق أحدا إلا إذا أحس فيه قبسا من نور .

إلا أن الأمور اختلطت اختلاطا غير يسير في ( عام الحنين ) فإن ( خيانة ) سيف الدين ، أو ( توبته ) ( حسب المعسكر الذي أنت فيه ) ، أضعف فريقا وقوى فريقا . كان سيف الدين بطل الواحة وفارسها وزعيمها فلما تحول إلى معسكر الأتقياء العقلاء سرى الرعب في قلوب أصدقائه القدامى . كان من ناحية وارثا . فكان هو الذي يدفع ثمن الشراب في غالب الأحيان . وكان ستارا مفيدا يختفون وراءه في مجونهم ، إذ كانت البلد مشغولة به عنهم ، وكان بعضهم يرى فيه رمزا حقيقا لروح الانطلاق والتمرد . وفجأة انهدت الأرض تحت أرجلهم ، ثم أن سيف الدين استغل معرفته بخباياهم ، فأصبح أخطر خصم لهم . واشتد ساعد الإمام بسيف الدين . كانت الواحة دائما شغلة الشاغل ، وتقوم في نظره رمزا للفساد والشر ، ونادرا ما كانت تخلو خطبة من خطبه من ذكرها . والآن وقد عاد سيف الدين إلى جادة الصواب ، فقد زادت خطب الإمام قسوة ، وزادت حملته قوة ، وأصبح سيف الدين المثل الذي يضربه كل مرة على أن الخير ينتصر في النهاية . لم يحفل الإمام بأن الحنين ، وهو يمثل الجانب الخفي في عالم الروحانيات ( وهو جانب لا يعترف به الإمام ) كان هو السبب المباشر في توبة سيف الدين . معكسر ( الوسط ) ، جماعة محجوب لم يتأثر كثيرا ، فهم يعتبرون الواحة ، كالإمام سواء بسواء شرا لا بد منه ، ولم يكونوا يأبهون كثيرا إلى أن بعض شبان البلد يسكرون ، ما دام ذلك لا يؤثر على سيرة الحياة الطبيعي ، لا يتدخلون إلا إذا سمعوا أن شابا سكرانا تهجم على أنثى أو رجل من أهل الحي ، حينئذ يلجأون إلى أساليبهم الخاصة ، التي تختلف عن أساليب الإمام ، وفي تأييدهم لبقية الناس ، في محاولة تهديم الواحة ، لم يكونوا ينظرون إلى عملهم كما ينظر له الإمام محاولة لتغليب الخير على الشر . لا بل لأن زوال الواحة سيغنيهم عن متاعب عملية ، لا حاجة لهم فيها . المهم أن الإمام فرح بسيف الدين فرحا عظيما ، أصبح يذكره في خطبه ، يتكلم وكأنه يتحدث إليه شخصيا ، تراه خارجا داخلا معه . وقال أحمد إسماعيل لمحجوب مرة وهو يرى سيف الدين والإمام يمشيان معا ذراعا في ذراع : ( ود البدوي من الخدم للإمام ) .

وكان للإمام رأي في أمر زواج الزين من نعمة بنت الحاج إبراهيم .

ودخل محجوب دكان سعيد ، ووضع قطعة نقد على الطاولة فأخذها سعيد في صمت وانزل من الرف علبة سجاير بحاري ، ووضعها في يد محجوب ومعها الباقي قطع معدنية صغيرة ، أشعل محجوب سيجارة شدة منها نفسين أو ثلاثة ثم رفع وجهه إلى السماء وتمعن عليها دون إحساس ، كأنه قطعة أرض رملية لا تصلح للزراعة ، وقال فتور : ” الثريا طلعت . وقت زراعة المريق ” وظل سعيد مشغولا بتفريغ

علب من صناديق ووضعها على الرف بعد ذلك تحرك محجوب وجلس قبالة الدكان ، ليس على الكنبة ولكن على الرمل مكانهم المفضل ، حيث ضوء المصباح يمسهم بطرف لسانه . فإذا ماجوا في ضحكهم أحيانا تراقص الضوء والظل على رؤوسهم ، فكأنهم غرقى في بحر يغطسون ويطفون ، بعد ذلك جاء أحمد إسماعيل يجرجر رجلية كعادته ، واستلقى بظهره على الرمل قريبا من محجوب دون أن يقول شيئا ، ثم جاء عبد الحفيظ وحمد ود الريس ، وكانا يضحكان لم يسلما على صديقهما ، وهذان لم يسألاهما عن سر ضحكهما ذلك شيء آخ
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
Ismail

Ismail


عدد المساهمات : 2548
تاريخ التسجيل : 05/02/2008
العمر : 44
الموقع : aykabulbul@gmail

الفصل الثاني من رواية عرس الزين Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفصل الثاني من رواية عرس الزين   الفصل الثاني من رواية عرس الزين Emptyالثلاثاء 27 نوفمبر 2012, 4:13 pm

قرأنا رواية (عرس الزين) بأكملها يا صخر...

يا لها من رواية رائعة، ونقل رائع لما يدور في المجتمعات السودانية من أحداث ووقائع...

فهلا أنزلت لنا مزيداً من روايات الأديب السوداني المبدع الطيب صالح (عليه رحمة الله)...

من أمثال: مريود، ودومة ود حامد، وبندر شاه...
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
http://www.google.com.qa
 
الفصل الثاني من رواية عرس الزين
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» عم الزين
» بت الزين الى رحمة الحى المنان
» عرس الزين للروائ الطيب صالح
» كأنك تقراء المصحف وهو بين يديك
» عمنا الزين أحمد يوسف إلى رحاب الله الطاهرة

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات العريجا :: المنتدي الادبي والثقافي-
انتقل الى: