بين سنبلة وحبة
الاخوة مشرفي الزاوية وبقية الـأخوان والأخوات السلام عليكم وبعد...
دعوني أقص عليكم قصة كمدخل للموضوع.
يحكى أن شاباً ثلاثينياً جلس ذات يوم إلى شرفة منزله و في معيته أمه الطاعنة في عقدها السابع و أبيه الذي ضاحك الثمانين. جاء عصفور فحط على الشرفة. سأل العجوز: ماهذا يا ولدي: رد الأبن: عصفور ,قالها وفي خاطره وجل من أن العمى يداهم أباه (يعني خميرة تلتلة). قلت لك ما هذا يا ولدي؟ أعاد الأب ذات السؤال وكرره أربعاً. جعل الابن يعيد ذات الإجابة بوتيرة متصاعدة و أوداج آخذة في الانتفاخ إلى أن انفجر وسرخ في وجه أبيه:" ما قلنا ليك عصفور يا أبوي ما شايف يعني و لا عاوز تفقع مرارتي وأنا براي ما ناقص" تدخلت الأم لفض ا لاشتباك. لكن الأب انسحب بهدوء وهو يدرك كم هو سخيف سؤاله. فغاب برهة ثم عاد مبتسما للغرابة!.. وبيده دفتر قديم أظنه من قبال ما يحفروا البحر.. بدا على السجل الاهتراء والبلى لما حوت دفتاه من ذكريات. فتحه وجعل يقرأ: في ذات يوم كذا من سنة كذا جلست إلى الشرفة وابني (هذا) في حكري. جاء عصفور فحط على الشرفة فسألني ولدي, ما هذا ياأبتي؟ فأجبت بانشراح: عصفور ياصغيري! فجعل يعيد علي ذات السؤال مراراً حتى الأربعين كأنه وجدها لعبة مسلية, وأنا أعيد ذات الأجابة بلا كلل وأقبله وأجرش الحلوى ثم أضعها في فم ولدي. صعقدت هذه العبارات ابننا الحبيب في مقتل وعادت القهقرى و راح يعبر معها و يهيم في فضاءات سحيقة وعوالم لم يكد يتذكرها إلا ضباباً.
مشهد من الواقع.. يعانق ناظرينا كثيراً و يحدث في أرقى المحتمعات بين بني الإنسان.. بيد أنه يتجسد أيضاً في مخولقات و ثنائيات أخرى عديدة مثل: قصة النبتة والبذرة حين توضع في التربة حتى إذا ربت فانفلقت وزرعت ففتقت ثم أزهرت.. و خرج منها جذور وأغصان وأوراق ثم أن جئت تبحثها لم تجدها شيئاً .. إذن أين ذهبت البذرة؟! وهي نفسها حكاية جدلية البيضة التي تساوي صفاراً و بياضاً.. حتى إذا جمدت ففقست أفرخت كتكوتاً. ثم إذا فقدناها بعد ذلك وجدناها قد تبخرت.. فلا مح ولا دح ولا يحزنون.. فإلى أين آلت البيضة؟!
سبحان الله ..و لاغرابة في ذلك لأن كل ميسر لما خلق و قدر له.. ولعل من أروع أسرار الكون هو ثنائية البقاء والفناء.. فالأبوة والبنوة "باءان" لا يجتمعان طويلاً ؛تحملان الشيء و ربما ضده؛ ما أن تبدأ إحداهما بالنمو من أجل البقاء حتى تستأذن الأخرى بالانصراف نحو الفناء ..فوالدايووالداك .. وأجدادي وأجدادكم أني هم. أليسوا هم الوعاء الذي حملني الخالق عز و جل فيه لأخرج لهذا الوجود.. كانوا سبباً في مجيئنا إلى هذه الفانية فلما كنا صرنا ندفعهما إلى تلك الهاوية .. ظلوا يمارسون معنا فن المستحيل لننهض أقوياء.. فلما شد عودنا عجزنا أن نمارس معهم حتى فن الممكن ليبقوا معنا وهم ضعفاء..
العجيب أنه ما من شيئ أحلى من الولد إلا ولد الولد.. شخصياً ما جربت؛ لكن اسألوا أخونا ا لشيخ/ عبد الحي الشبلي إن كننتم لا تصدقون.
أنا عشت و لم أر والدتي قط.. فتربيت بين حبوتين .. كانتا تتنافسان وتتفننان في إسعادي.. حتى أن أحداهن لمان خلاس كبرت ومرقت دقشت البنادر.. مرة مشيت الخطوم قمت جبت ليها هدية (صابونة أم ريحة) ففوجئت بعد سنين أنها لاتستعملها أبداً, قالت لأنو (فيها ريحة جناي) .
حكى أحد المشايخ أن رجلاً ضاق ذرعاً بأمه الضريرة وتنكر لها وللتخلص أخذها إلى غابة ورماها هناك وانصرف. فلما جن عليها الليل جن جنونها على فلذة كبدها فقد افتقدته يوماً طولاً.. فهرع إليها أحد المارة, دله نحيبها وصياحها فلما هم بأخذها إلى حيث عنوانها إذا بقصاصة بيدها كتب عليها: "لمن يعثر على هذه العجوز عليه إيداعها في أقرب دار للمسنين .. لطفاً"
شكراً و لا تعليق لدي بعد هذا
أبو حازم