الإبداع من رحم الوجع
عوداً على ما بدأناه مع حبوبتي سعدت,أبا مسلم, بأن القصة الذي أوردتها ضمن مشاركة سابقة نال منك ذاك المنال وحرك فيك مشاعر لاتخفى علي..فحالنا من بعضه مع المعاناة.. وهنا سرالنجاح والأبداع الذي يقتات على الألم. يقول تشارس ديكن:" أبدع إذا عانيت"أخي أبا مسلم أنت شاعر والشاعر كما الروائي والكاتب كتب عليه أنه غيثارة عصره ولسان حال زمانه الذي لا ينفلت منه وإن أفلت من قيوده وتمرد على أوضاعه..وجند نفسه لمعترك صون الفضيلة و نبذ ثقافة الكراهية وتأسيس وعي مسكون بقضايا مجموعته ملتزم بها. ليس المبدع مؤرخاً وإن كان موثقاً جيداً..يعيش يومه ويشرئب لغده ..و هو يدون لنا شهادة عين رأت و قلب يكاد ينخلع ألف مرة قبل أن يرتمي على عري كل ستر رآه يهتك أو ظلم رآه يقع أو حق سمعه يستلب. وللكلمة مفتاح تحظى به على خارطة الإصلاح في كل أمة والنضال لنصرة كل شعب يريد البقاء.
فليست حكايتي مع الجدة سوى خاطرة من رحلة ممتدة محببة مع الألم ..عشناها مع أناس تعهدونا فحضنونا على إقبال و ولم نبالي بهم على إدبار..تلك الجدة التي لما أهديتها صابونة أم ريحة و لم تستحم بها ..بس تشمها وتلمها وتقول "دي فيها ريحة جناي". كانت تعد الطعام و تضعه راضية بين أيدينا أنا وأخوتي ..وتجلس لتراقب و نحن نتلحوس و نتناتش ..وإذا تناقص الملاح أو الكسرة نطلب و نقول: ملحيها و زيديها.. وخليني ألنمشي الخلاء(....) وأجيها. حتى إذا فرغنا تماماً إذا بها تدنو لتحسن القدح, (يعني منها نظافة ومقيتة). كنت أصغرهم سناً وحمقي شوية..مسمياني الجنا (أب وشاً محومر دا).. فكانت إذا نال منها الغضب وطفح بها الكيل و قشطتني بسير (المفحضة) سرعان ما تجهش بالبكاء وتأكل أصابعها من الندامة و تصوت لي شربات ليمون تكب فيها علبة السكر.. وهي قاطعة على نفسها عهداً ألا يجد الحزن سبيلاً إلى قلوب هؤلاء اليتامى من ثغرتها..
أذكر جيداً أنني يوم مضيت عقدي للعمل حيث أنا الآن (منذ عدد 24رمضان) وأنا منهمك في الإجراءات حمل إلي فاسق نبأ تلك الشجرة التي ماتت واقفة.. قطعت كل شيء..وسافرت البلد لتلقي واجب العزاء..هناك وجدت الكل يرصد: ما أنا فاعل بفجيعتي في صاحبة الأيادي البيضاء التي منحتنا كل شيئ و لما لبننا (أديناها الطير). رأيت الفضولي منهم يلحظ في أم عيني فكانت الخيبة بجلاجل: إذ خزلتني عيناي فجمدتا ولم تجودا رغم محاولات الاستدرار..مما جعلني أتمزق حزناً.. همس أحدهم قائلاً :" يا أخوي المات فقد روحو" ومضيت عائداً إلى طاحونة المشاغل.. فلما أوشكت على ختم تأشيرتي للرحيل .. هنا يا دوب جاءت العبرة في غير وقتها ولا محلها فجلست على أية حال أنحب نحيباً مراً و أزرف دمعاً سخيناً.. فلما رفعت رأسي إذا جمهرة من الناس من حولي يضربون أكفاً بـاكف والبعض يتساءل:"دموع الفرح أم دموع التماسيح؟"!!!.
شكراً
أبو حازم