...و فارس آخر يترجل
إلى الرفيق الأعلى..محمد السيد حاج.. ذاك الشاب البهي القابع في عباءة شيخ جليل..عاش شاكراً ذاكراً و رحل باكراً. تكسوه سمرة لافتة بيد أني أحسبها و الله حسيبها, فيما عدا ظاهر الأديم لا بد أن تنطوي على بياض كاللجين؛ فما رأيته قط عابساً؛ إذا لقيك فبمحياً بادي الألق و نفس مشبعة بالصدق و الرضا و تبسم مطول عريض متفتق عن عقد أسنان بلوري لا يكدر "نظمه" سوى فلج طفيف.. و لا يشي بسوى باطن غاية في الرهافة و الطهر و النقاء. كان الشيخ أنيقاً وبسيطاً ومميزاً في كل شي تماماً واسماً على مسمى برنامجه( كن مميزاً) تلك التحفة البديعة والقصعة الرمضانية الجامعة لكل طيب من الكلم ونفيس من الشمائل .كان آخر عهد لي به في ليلة بدرالكبرى من رمضان الفائت و علي صعيد سفارة السودان جلست هناك في معيته وقد تحكر على الأرض القرفصاء يشاركنا طعاماً بسيطاً جداً لم أره ذاق منه شيئاً سوى لقيمات أقمن صلبه بالكاد ثم قام يأخذ دوره بين المتحدثين حيث نطق فأحكم و قارع فألجم ووعظ فأنعم. كان شديد الحمية لدينه والغيرة على تراب أمته..ينعي على الناس الفرقة والشتات و ينبذ الاحتراب و يسخط على رفع السلاح.. كان يتندرمفاخراً بتحدره من قوم بسطاء طوبى لهم إذ لا ناقة لهم في ما يدور الآن و لا جمل ممن (راحو وخلوا الريح تنوخ فوق النخل) من أجلقيام السد العالي أقصاي الشمال ليبدؤوا وينتهوا غرباء في أقاصي الشرق, على عشم في العودة انقطع الآن وإلى الابد بعد قيام سد مروي.
سوف لن نطيل النواح على شيخنا. لعل عزائنا فيه أنه الآن إن شاء الله في عليين و أن موت أمثاله عسى أن يكون إمضاءاً لسنة الله في خلقه بأن لا تقوم الساعة يقبض علمهالشرعي بأن يقبض العلماء كما ورد في صحيح البخاري عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبقِ عالماً اتخذ الناس رؤساء جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا{..
وأخبر صلى الله عليه وسلم أنه{لا تقوم الساعة حتى تكثر الزلال{ والزلازل نوعان: نوع حسي يهز الأرض وآخر معنوي يزلزل الإيمان والعقيدة والأخلاق والسلوك حتى يضطرب الناس في عقائدهم وأخلاقهم وسلوكهم، فيعود الحليم العاقل حيراناً. ولقد أخبر حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى:أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا [الرعد:41] قال: } بموت علمائها وفقهائها .{.وقال رجل لابن سيرين رحمه الله: إني رأيت الليلة أن طائراً نزل من السماء على ياسمينة، فنتف منها، ثم طار حتى دخل السماء، فقال ابن سيرين رحمه الله: "هذا قبض العلماء".فلم تمض تلك السنة حتى مات الحسن ، و ابن سيرين ، و مكحول ، وستة من العلماء بالآفاق، وقد كان السلف -رحمهم الله- يأسون أشد الأسى لفقد واحدٍ منهم. وإنَّ من حسن العزاء عند فقد العلماء: أن دين الله محفوظ، وشريعته باقية
و}لا تزال طائفة من أمتي -أمة محمد صلى الله عليه وسلم- على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم على فهؤلاء العلماء -رحمهم الله- باقون بذكرهم.. أحياء بعلمهم، يلهج الناس بالثناء عليهم والدعاء لهم، ويجتهدون في اقتفاء آثارهم، وترسم خطاهم، علماً وعملاً، ودعوة ومنهاجاً.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمرنا، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، اللهم انصر إخواننا المجاهدين في سبيلك في كل مكان، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
أبو حازم
25/4/2009