دروس بعد الرحيل من الشيخ محمد سيد رحمه الله
من الناس من يرزقهم الله توفيقا في حياتهم يمتد أثره بعد مماتهم، وممن نحسبهم من هؤلاء - والله حسيبهم - شيخنا الجليل محمد سيد حاج رحمه الله، ولعل هذه إشارات سريعة لبعض الدروس والوصايا من سيرته وحياته، أسأل الله الإعانة عليها والتوفيق والإخلاص فيها.
أولا: للمتعجبين من شدة احتفاء الناس بالشيخ
ابحثوا عن السببلم يكن الشيخ ذا مال ولا جاه ولا منصب ولا وسامة شكل، بل قدَّر الله بحكمته أنه لم يتحصل على درجة علمية بعد الشهادة الجامعية، إذا قبضه الله إليه قبل أيام معدودة من مناقشة رسالته الأولى، ومع ذلك أحبه الكثيرون حبا عبروا عنه بالبكاء والدعاء والحضور الحاشد للصلاة عليه، والعاقل لا يمر عليه مشهد كهذا إلا استوقفه باحثا عن السبب، فمن بحث عنه بصدق علم أن لله تعالى في حِكَم وآيات، وأن التوفيق منه وحده، فمن أراده سلك له سبيل طاعته؛ إذ القلوب كلها بيديه سبحانه.
ثانيا دروس عامة: لعموم محبي الشيخ محبتك صادقة، فلا تُتلفها بالتوقف عن مقتضياتها مما نحسب أن الله تعالى أكرم به عبده الشيخ محمد سيد حاج - رحمه الله – ما حباه من محبة في قلوب الكثيرين ممن يتنوعون في القرب أو البعد مما كان عليه الفقيد الحبيب - رحمه الله – من استقامة في المنهج والسمت والهدي النبوي، وقد أظهرت صدقَ مشاعرِ هؤلاء انفعالاتهم وتفاعلاتهم على مواقع الشبكات الاجتماعية، فإلى هؤلاء الذين قعد بهم التسويف والنفس الأمارة بالسوء أهمس (ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله) فكفكف الدمعة وأوقد الشمعة، ليضيء القلب بنور الله.
لا ترض بالتنفيسفلا تركن إلى ما ذَرَفْتَ من الدموع، فتأنس بذلك أُنسا تغفل به عن السعي في إصلاح نفسك ونفعها بما خلَّف الشيخ من علم، إذ هذا اللون من التنفيس رأس من رؤوس أموال المفاليس، ولا أظنك ألا جادا في البحث عن الغنى، وأعظم الغنى غنى النفس، فكن مفتقرا إلى الله من خلال طاعته فربك الرحيم هو الغني الحميد.
قدوة للتأسي وليس رمزا للتقديسفليس من منهج السلف الصالح رفع أحد من الأنبياء فضلا الأئمة والأولياء مهما بلغ إلى مقام من مقامات التقديس، وإنما تُذكر قصصهم ومآثرهم من أجل أن يتأسى بهم من بعدهم، وقد كان الشيخ رحمه الله من أكثر من نشر في الناس قصص السلف وآثارهم التربوية والتعبدية والسلوكية، ولما كان الناس قد يستبعدون ويستثقلون التأسي بمن ابتعد زمانه عنهم، فإننا نرجو الله تعالى وهو الشكور الكريم، أن يجعل من مآثره ومواقفه نموذجا معاصرا يُحيي آثار السلف في النفوس، والمرء مع من أحب، فاللهم لا تحرمه الاجتماع والأُنس بهم
الحذر من "صور" الغلوفمن ضعف النفس البشرية أنها تنكسر أمام صاحب الصلاح الذي تراه، أو أمام صورته بعد غيابه؛ إذا لم يكن القلب ممتلئا بتوحيد الله وإفراده بالتعظيم والجلال، ومن هنا كانت فتنة قوم نوح بالصالحين من قومهم، ولهذا جاءت الشريعة بسد منافذ الشرك ولو كانت صغيرة، فنهى صلى الله عليه وسلم عن إطرائه وهو سيد البشر، ومن صور هذا الغلو الإكثار من تناقل صوره الشيخ رحمه الله واتخاذها صورة للمستخدمين في المنتديات والشبكات الاجتماعية، والتعليق عليها بما قد يُفهم منه الجزم له بالجنة، وتناقل كلمات تدل على شيء من الغلو كقول بعضهم: ما طعم الحياة في هذه الأرض بعدك، ويا من فتق ذكر الله في لساني، ونحو ذلك، وأدنى ما في ذلك أنه لا يليق بشيخ نحبه ونعلم منه كراهته لهذه الأمور من أمور التعظيم أن نسلك به سبيلها.
محبة تقود إلى التكميل والثباتمحبة قلبك لمن ظهر لك صلاحه ونَفَعَكَ الله بما معه من العلم؛ علامةُ خير وبداية صلاح، إذ المحبة خطوة أولى من خطوات التأسي وإزالة عوائق النفس.
ولمَّا علم الخالق سبحانه ارتباط المتحابين وتشوقهم للقاء جعل من أعظم نعيم الجنة التقاءهم فيها إخوانا على سرر متقابلين، وتذاكرهم لأيام التواصي بالطاعة والصبر عليها، فاصنع من هذه المحبة عزيمة وإصراراً على استكمال نقص الطاعة ثم الثبات أمام عواصف الفتن والمغريات، فإنما الحب النافع ما قاد إلى العمل بمثل عمل المحبوب.
عرفتَ طعم القيام لأمر جللأتاك خبر رحيل الشيخ وأنت في نومك، أو مُجهَد في آخر يومك، فأطار النوم عن عينيك وأنساك تعب اليوم ونَصَبَه، فاستفدِ الدرس وافهم لمَ كان صلى الله عليه وسلم إذا قام لصلاة الليل "وثب" من فراشه، فمن استحضر جلال ربه وعظمة الوقوف بين يديه خفَّ بدنه لتحصيل راحة قلبه. فاجعل لنفسك من بقية الليالي زادا
العلم روح ورحم بين أهلهفمن أحب الشيخ من قبل أو غدا محبا له بعد ما شاهد من تأثر الناس بموته، فلينتقل من دفن جسده رحمه الله إلى إحياء علمه، فإن العلم روح لا تُدفن، وليزدد قربا من الشيخ بعد مفارقته هذا وليتلق من علمه المحفوظ عبر الوسائط فإن العلم رحم بين أهله، ولينشر ما من علم الشيخ بين أهله وأصدقائه ما يكون مُدخلا له في عموم الأجر، ومن كان عنده شيء من التسجيل الخاص للشيخ في مناسبة أو لقاء، أو كانت له رغبة في خدمة شيء من علمه فليوسع دائرة الانتفاع به عبر منتدى محبي الشيخ محمد سيد رحمه الله
http://moh-sayd.net ثالثا دروس خاصة: لطلاب الشيخ والمنتسبين إلى طريق الاستقامة والدعوة
الصحابة خير منكموهذه لا يشك فيها أحد ومع ذلك حذرهم النبي صلى الله عليه وسلم عن بعض ما يخدش الاعتقاد بأي صورة من صور الجزع أو الاعتراض على القدر، أو التعظيم المجاوز لما يجوز في حق العبد، فاحذر من أن يقوم بقلبك معنى أو تخرج منك كلمة يُفهم منها شيء من ذلك أو تقود إليه، فحملة دعوة التوحيد هم أعظم من يقبُح منه الغلو ولو كان على سبيل الاحتمال أو القول المرجوح عند المرء إذا المسألة مسألة اعتقاد وتعظيم لجناب التوحيد
الوقوع دليل الإمكان فرؤية الناس لنموذج عاش بينهم ووفقه الله لأمور كانت عوائد الناس تستبعد اجتماعها في شخص واحد؛ تزيل وهم الاستحالة ليعلم كل ذو همة أنه إن اجتهد وسأل من ربه التوفيق أدرك بعونه سبحانه أمورا عظيمة لم تكن أحلامه تناوشها، فتنزاح بذلك صخرة الاستبعاد لتتفجر من تحتها ينابيع العطاء والعمل الجاد، فسبحان من يقدِّر غياب واحد ليأتي بذلك
... ونكتب ما قدموا وآثارهمفلعل في هذا الرحيل السريع لمن كان أكثر محبيه ينتظر منه عطاءً لعشرين سنة أخرى على أقل تقدير - إذ غالب أعمار الأمة بين الستين والسبعين – لعله يحرك في هذه النفوس السؤال الصعب: ماذا قدمنا من آثار لتُكتب لنا؟، فكن عاقلا حازما وابدأ التخطيط لوضع آثارٍ تنفعك في تلك الدار، إذ لا علم لك متى يدهمك ما دهمه.
الاتزان والاعتدال زينة كل شيءومن خوارم هذا الاتزان المدح المبالغ فيه للشيخ بما يُفهم منه انتقاص لمن في الساحة من علماء ودعاة لهم مجهوداتهم التي لا تُنكر وثغراتهم التي قاموا عليها ولو لم يطلع عليها الجماهير لخفائها أو قلة تعلقها بهم، ولا شك أن مثل هذا الإجحاف غير المقصود قد يقود البعض للزهادة في الموجود بسبب التعلق بالمفقود، فيفوت المرء علم وخير كثير من حيث لا يدري ولا يحسب.
إنما الصبر عند الصدمة الأولىفكثير من الشباب المستقيم وجد في ما ظهر له من صلاح الشيخ وقربه من سنه واقترابه من همِّه ونفعه له بعلمه، مع لطافته ودعابته -رحمه الله - ما جعل محبة للشيخ تصل إلى قدر من التعلق لم يكن يعهده في علاقته، فلما أتى قدر الله على شيخه الحبيب بغتة كان هذا من أعظم الصدمات عليه فابتلى ذلك إيمانه بقدر الله وحكمته ورحمته، والعاقل من يراجع نفسه بعد الفواق من أثر المصيبة ويجرد حساباتها ليعلم ما فاته من مقامات الصبر الواجب، وما وقع فيه مما يخالف ذلك.
دعوها فإنها منتنةالشيخ رحمه الله من قبيلة سادت عنها في السودان صورة سوداوية، تجاوز أثرها مجرد الأذية إلى التأثير على نفسية بعض أفرادها، حتى أضحى الواحد منهم يجد لنفسه العذر الكامل بانتسابه أليها إن قصر في شيء من أمر ربه، أو تجاوز حدا من حدوده، ألا فلتهنأ هذه القبيلة بانتساب مثل هذا العَلَمِ إليها – ومن قبله دعاة وأعلام- وليتق الله من ينشرون مثل هذه القصص ولو على سبيل الحكاية والرواية.
إنما الصغير من صغُرت همتهفسبحان الله كم نفع الله بهذا الشيخ الذي لم يكمل أربعينه، وكم ممن جاوز الأربعين بعدِّ السنين وهمتُه لم تبلغ عُشر ذلك، فاحذر التسويف فإن العمر لا ينتظر وتعلم من فقه أولويات الدعوة ما يعينك على تقديمها لمن هو دونك علما وفهما، واستمر في الجمع بين الاستزادة من العلم والاستمرار والترقي في الدعوة؛ يعافيك الله بفضله من صغر الهمة ودنوها.
لا تجعلوا الدعاة إلى التوحيد والسنن كرموز الرياضة والفنتبدو من بعض تعليقات محبي الشيخ في مواقع الشبكات الاجتماعية والمنتديات مظاهر توحي للناظر أن الشيخ ليس أقل قدرا من رموز الرياضة والفن!، فتتحرك نفوسهم دون إدراك كامل نحو التشبه بهؤلاء في طرائق التعظيم ومعاهدته الشيخ رحمه الله على عدم نسيانه أبدا، والمناداة بألا يقل الاهتمام بنشر صوره في الصحف عمن مات من رموز الجهالة، فليعلم هؤلاء أن قدر أئمة الدين أعلى من أن يُشابه بهم هؤلاء، وليحذروا من مزالق التعظيم .
إياكم والنذرإذ هو كما وصفه الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم "لا يأتي بخير وإنما يُستخرج به من البخيل"، فلا تُلزم نفسك بلوازم تعبدية أو علمية أو تربوية كردة فعل لفقدان حبيبك وموجِّهك، بل كن "كريم النفس" تجمع في سيرك في درب الطاعة بين الجد والرويَّة، وفي نهي نفسك عن هواها بين الحزم والرفق، ولا تكابر طبعك ونفسك في بعض المستحبات؛ فإن الشيطان قد يدفعك لعمل لا تستطيع الاستمرار عليه - لأنك لم تتهيأ له ولم تتدرج للوصول إليه-، ليدلل لك على أنك خسيس الهمة ضعيف العزيمة.
لا توكيل في الدعوةكان الكثير يعوِّل في انتشار الدعوة وطرح المواضيع التربوية على الشيخ، وكأنه وكيل له أنابه عنه في أمر الدعوة، فلو سلمنا بهذا فماذا أنت فاعل وقد مات وكيلك وعادت المهمة التي عليك إليك، فانشط فيما فيه رفعتك ومجدك ولا تفرِّط في دورك، ولا تبحث عن وكيل جديد.
رابعا دروس أخص: لسالكي طريق طلب علم الشريعة أو الراغبين فيه
العلم لا ينحصر في دولة أو مدينة أو زمانفهو عبادة جليلة، وتخصيصها بأحد هذه الأوصاف يحتاج لدليل، وقد قدَّر الله لشيخنا الفقيد الفقيه أن لا يخرج لطلب العلم خارج هذه البلاد، بل ولا أن يسكن في أوائل حياته في حواضرها العلمية.
فأين المتقاعسون عن طلب العلم أو التاركون له بسبب عدم القبول في جامعات خارجية من هذا النموذج الفريد المحرج لبعض من درس في مدائن العلم فضلا عمن دونهم في تهيؤ الظروف.
رُبَّ فقرٍ وضيقٍ أورث همة وعلمافقد عاش شيخنا رحمه الله فقيرا معظم حياته، يكتم سره ويسير في دعوته، بل ربما خرج من بيته في مدينة الجيلي إلى الخرطوم لتقديم بعض البرامج الدعوية أو المشاركات التلفزيونية، وهو لا يملك في جيبه ما يدفعه لمركبة النقل العامة، فلم يتقاعس ولم يقعد بل دفعه ذلك للمزيد من العطاء محتسبا الأجر والعون من الله، فلا حجة للقاعدين بهذه الحيلة، فضلا عمَّن تيسرت لهم السُبل وعُبدت لهم الطرق ثم هم يقعدون.
الشهادات معينات لا غايات، واستئناس لا أساسفلم يمتنع أحد من الاستفادة من علم الشيخ بسبب خلوه من الشهادات فوق الجامعية، ولم يتقاعس هو عن اداء الواجب انتظارا لتحصيلها، بل لعل من حكمة الله تعالى أن قبض روحه قبيل مناقشته بأيام ليتبين للناس أن "رسالة" الإنسان الدعوية، أسمى بكثير من الاقتصار أو الانحصار بهذه "الرسائل" الجامعية، وأن شهادة الناس لأحد بالعلم أبلغ من شهادة لجنة محصورة، إذا دلالة الاستفاضة أبلغ عند أهل الفقه من دلالة الشهادة، وفي كلٍ خيرٌ إذا حصل الإخلاص وحُسن القصد .
الاطِّراد والثبات وسيلتك لقوة العلم والدعوةوهذا ما نحسبه في الشيخ ولا نزكيه على مولاه العليم الخبير، فلما كان راسخ القناعة بدعوته وقد اتضحت عنده الأصول والكليات انطلق مبشرا بدعوته فدخل بها كل ميدان متاح، وأوصلها لكل راغب في الاستماع لصوت الحق، ونافح عنها بكل ثقة وثبات، فكن مؤصَّلا وثبِّت معاني التوحيد والمنهج السديد في قلبك وقوِّ من تعظيمك لها واشدد قلبك عليها تبلغ ما بلغه من سبقك