بسم الله الرحمن الرحيم
ديل أهلي البقيف في الدارة واتنبر وأقول للدنيا ديل أهلي
أولاً من كان يظن أن العريجاء قرية مغمورة، وبقعة مهجورة، فهو واهمٌ ومخطئ، فإنا قد وجدناها مادة خصبة للكتابة، لأننا عرفناها مستودعاً زاخراً بالفضائل والمحامد والمكرمات. وهذه السانحة التي بين يديك لهي أكبر دليل على ما نقول.
نماذج قديمة من الكرم العربي الأصيل: غلام يتيم أكرم من حاتمقيل: سأل رجل حاتماً الطائي فقال :يا حاتم ،هل غلبك أحد في الكرم؟ فقال :نعم غلام يتيمٌ من طيء نزلت بفنائه، وكان له عشرة رؤوس من الغنم فعمد إلى رأس منه فذبحه. وأصلح من لحمه، وقدَّمه إليَّ وكان فيما قدَّم إليَّ الدماغ؛ فتناولت منه فاستطبته، فقلت له: طيبٌ والله. فخرج من بين يديَّ وجعل يذبح رأساً رأساً، ويقدم إلي الدماغ وأنا لا أعلم. فلما خرجتُ لأرحل نظرتُ حول بيته دماً عظيماً ، وإذا هو قد ذبح الغنم بأسرها. فقلت له: لم فعلت ذلك؟ فقال: يا سبحان الله! تستطيب شيئاً أملكه وأبخل به عليك، إن ذلك لسُبةٌ على العرب قبيحة. قيل يا حاتم: فما الذي عوضته؟، قال: ثلاثمائة ناقة حمراء، وخمسمائة رأس من الغنم .فقيل أنت إذن أكرم منه، فقال: بل هو أكرم، لأنه جاد بكل ما يملك، وإنما جدت بقليلٍ من كثير .
غلام يبهر عبد الله بن جعفر بسخائه قيل : إن عبد الله بن جعفر (رضي الله عنهما) خرج إلى ضيعةٍ له، فنزل على حائط نخلٍ لقومٍ وفيه غلامٌ أسود يعمل به، فجيء إلى الغلام بغدائه، وهي ثلاثة أقرص، فرمى بقرصٍ منها إلى كلبٍ كان يقف قريباً منه فأكله، ثم رمى إليه الثاني فأكله، والثالث فأكله، وعبد الله بن جعفر ينظر إليه، فقال: يا غلام كم قوتك كلَّ يوم؟ قال: ما رأيت. قال: فهل هذا كلبك؟ قال: لا، قال: فلم آثرته بكل غدائك؟ فقال: إني لأستحيي أن ينظر لي ذو عينين وأنا استأثر بطعامٍ دونه، وإن هذا الكلب جاء من مسافة بعيدة جائعاً فكرهت رده. فقال له عبد الله بن جعفر: فما أنت صانع اليوم؟ قال: أطوي يومي هذا .فقال عبد الله بن جعفر لأصحابه: إن الناس يلومونني على السخاء، وهذا الغلام أسخى مني. ثم إنه اشترى الغلام وأعتقه، واشترى الحائط وما فيه، ووهب ذلك كله للغلام.
نماذج عريجـاويـة صرفـة:سيف الدين وفضل الجليل ومن لفَّ لفَّهما:النموذجان المذكوران آنفاً من نماذج الكرم العربي الأصيل، ربما ينظر الناس لهما في يومنا هذا كما لو كانا ضرباً من الخيال، ولكن نحن عندنا نماذج (عريجاوية) أصيلة، لا ندعي مقارنتها بالنموذجين المذكورين، ولكننا نوردها كنماذج جديرة بالثناء، ومكارم جديرة بالاحتفاء، ومواقف جديرة بالاحتذاء.
أحد شباب العريجاء كان يشكو من ضيق ذات اليد، وكانت زوجته حاملاً وفي شهرها الأخير، وقد عانت عسراً في الولادة، فقررت الداية نقلها إلى المستشفى بالعزازي، فاستأجروا لذلك بوكسي الأخ/ سيف الدين حسن حدباي، ولم يكن زوجها يملك ثمن المشوار، ولما وصلوا إلى العزازي قرر الطبيب تحويلها عاجلاً إلى المناقل أو مدني، فانطلق سيف الدين بها على متن ذلك البوكسي، وهو مكتظ بالركاب من أقرباء المرأة، حتى أوصلها إلى المستشفى بالمناقل أو مدني (شك من الراوي)، وبحمد الله تلقت المرأة الرعاية الطبية اللازمة، ووضعت مولودها بالسلامة، وتم تخريجها من المستشفى بصحبة مولودها وهما في أتم صحة وعافية. ولكن زوجها ظل يؤرقه هاجس الدين الذي ظل في عنقه (ثمن المشوارين بالبوكسي)، وهو ربما يكون قد استدان ليسدد تكاليف علاج زوجته ومصاريف رقادها بالمستشفى. فجاء في يوم سوق العزازي مقتاداً عنزته التي تمثل المصدر الوحيد للحليب لأبنائه الصغار، لكي يذهب بها إلى العزازي ويبيعها ليسدد بثمنها ما في رقبته من دين لسيف الدين، وكان الأخ/ سيف الدين في دكانه في ذلك الصباح وحوله بعض الأهالي، فلما رآه مقبلاً والعنزة في يده؛ أخرج مبلغاً من المال من درج دكانه وخاطب مجموعة الأشخاص الذين كانوا بالدكان، قائلاً: "إن فلان هذا محتاج للمساعدة، فهو قد وضعت زوجته بعملية قيصرية، وتكبد الكثير من النفقات وعليه ديون، فتصدقوا عليه من فضل الله عليكم"، فبادر اولئك النفر بالإحسان والصدقة، كل بقدر استطاعته، حتى تجمع في يد الأخ/ سيف مبلغاً لا بأس به، فلما وصل ذلك الأخ إليه ناوله المبلغ وحلف عليه أن يرجع العنزة إلى البيت ويستعين بهذا المبلغ على مصاريف الأولاد، ويعتبر المشوارين مجرد خدمة من أخ لأخيه.
هذا موقف من مواقف سيف الدين، وهو رجل مشهود له بمثل هذه المواقف المشرقة. والأخ/ حسبو محمد أحمد الزين له مواقف شبيهة بمواقف سيف الدين، وهو مثال للشهامة والكرم والمروءة؛ أما الأخ/ فضل الجليل إبراهيم بابكر فهو أمة وحده في هذا المجال. فهو قد استقطب الكثيرين من أبناء القرية للعمل بمخبزه بالخرطوم (سوبا)، وقد ظل بيته مفتوحاً على مصراعيه لكل أقارب هؤلاء العمال الذين يأتون إلى العاصمة للعلاج أو السفر أو خلافه، رجالاً كانوا أو نساءً، وربما يقيم أحدهم ببيت فضل الجليل لأكثر من أسبوع. وهو يرحم هؤلاء العمال الذين يعملون عنده، ويعطف عليهم، ويزيدهم على أجرهم المتفق عليه، ويقدم لهم إكراميات ومساعدات مالية بين الفينة والأخرى، حتى أصبحوا جميعاً يحبونه ويذكرونه بالخير في كل مجلس. هذا وقد أصبح بيت فضل الجليل قبلةً لكل من يعرفه ومن لا يعرفه، وأصبح الناس لا يقدمون عليه أحداً إذا اقتضت الضرورة قدومهم إلى الخرطوم، لما يجدون عنده من الحفاوة والترحيب وكرم الوفادة. وهو يفعل كل ذلك دون تكلف أو غرور، ونحن نعرفه منذ صغره بهذه السجايا، فهو لا يعرف (الفشخرة) ولا (البوبار) ولا الرياء وحب الظهور. وهو رغم هذا الكرم الحاتمي الذي يدفعه لينفق إنفاق من لا يخشى الفقر، تجد رزقه في سعة، وثروته في نماء وزيادة، وترى البركة في ماله وعياله؛ فهو ينطبق عليه قوله تعالى: (وما أنفقتم من شيءٍ فهو يخلفه، وهو خير الرازقين )، وقوله صلى الله عليه وسلم: (اللهمَّ أعطِ منفقاً خلفا). ولا شك أن الأخ/ بدوي التجاني لا يقل كثيراً عن فضل الجليل في هذا الجانب.
اثنا عشر كوكباً:لو تلاحظ أن النماذج العريجاوية الأربعه المذكورة أعلاه كلها نماذج شابة، وهذا مما يثلج الصدر، ويبشر باستمرارية مسيرة الخير، حيث سيحمل هذه الشمائل الحميدة، بمشيئة الله تعالى، غرس صالح من جيل المستقبل، يتمثل في أبناء هؤلاء الأخيار وأحفادهم. وبين أيدينا قصة رائعة لاثني عشر كوكباً نيِّراً من العريجاء، جلهم من الشباب. وقعت القصة في أواخر الثمانينات من القرن الماضي، قبل أن يتم إلغاء المرحلة المتوسطة من السلم التعليمي. وكان بالعريجاء مدرسة متوسطة، معظم معلموها من الغرباء، وهم يقيمون ببيوت المدرسين، وكانت رواتبهم ضعيفة للغاية، وربما يمر على أحدهم عدة شهور قبل أن يستلم راتبه، فكانوا يعانون ضائقة شديدة. نظراً لهذه الظروف البائسة التي يعاني منها هؤلاء المعلمون؛ اجتمع اثنا عشر شخصاً من أهل العريجاء وقرروا التكفل بإعاشة هؤلاء المدرسين، فوضعوا جدولاً قسموا بمقتضاه أيام الأسبوع الدراسية الستة بينهم، كل اثنين منهم يتكفلون بإطعام المدرسين في يوم محدد من أيام الأسبوع، غداءً وعشاءً حتى الإشباع (تم إغفال يوم الجمعة لأن المعلم إما أن يكون فيه مسافراً أو مدعواً للطعام لدى أحد أهل القرية)، والتزموا بذلك الجدول التزاماً تاماً؛ حتى أن أحدهم إذا جاء يومه يمضي إلى السوق بالعزازي، ليشتري اللحم والخضار وكافة المستلزمات المطلوبة لإكرام المعلمين. وقد أحدثت هذه المبادرة انفراجا كبيراً في الوضع الذي كان يعيشه المعلمون، وطار ذكرها بين الناس وتناقلت خبرها الركبان، حتى أصبح المعلم يذهب إلى إدارة التعليم بالمناقل ويطالب بنقله إلى العريجاء لكي يتمتع بهذه البحبوحة والعيش الرغيد. وقد ذكر الأستاذ/ بله العبيد أنه سمع معلماً يتحدث مغضباً إلى أحد المسئولين في مكتب التعليم بالعزازي، ويقول: (ياخي المعلم في العريجاء يوفِّر ماهيتو كلها، لا عندو مشكلة في سكن ولا في أكل ولا في غيرو!).
بقى أن تعلم عزيزي القارئ، قائمة الشرف التي ضمت هذه الكوكبة الحاتمية، فها هم الاثنا عشر كوكباً مرتبين حسب أعمارهم:
(1) الحاج/ عطية علي عطية، (2) الحاج/ ملك الدار عبد الماجد، (3) نايل محمد أحمد، (4) الهادي حسب الرسول، (5) عثمان الزين علي أرباب، (6) معتصم أحمد الكدك، (7) سيف الدين حسن حدباي، (8 ) عبد الغفار جاد الرب، (9) الصديق آدم إبراهيم، (10) إبراهيم بله النور، (11) إبراهيم عبد الله البشير، (12) عبد الحميد محمد أحمد. أخيراً وليس آخراً، نحن إذ ننوه بذكر هؤلاء النجباء لا نريد أن نقصم ظهورهم، أو ندفعهم إلى العجب والغرور، ولكننا نريد أن يتواصل مثل هذا العطاء، وتتعمق مثل هذه الشمائل الفاضلة والخلال الكريمة، وأن يكونوا قدوة لغيرهم ومثلاً يحتذى في مكارم الأخلاق.
ولكم الشكر على حسن مطالعتكم لهذه الخواطر، واستميحكم عذراً على الإطالة.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته،،
إسماعيل البشير