- ودالأصيل كتب:
أم دقرسي
واحدة من تلك البلدات الوادعة الحالمة التي تتحكر القرفصاء على حوض النيل الأزرق و هي تتوسد خاصرته اليسرى و هو كأنما يربت على كتفها في تحنان أثناء مسيرة تحدره الطويلة في حالة تشوق عارمة وعلى عجلة من أمره لعناقه السرمدي مع توأمه الأبيض متأبطاً الخير كله – لا أقول محاراً و لا ردى- و لكنه يحمل طيناً لازباً و صلصالاً أخضر مع حمرة دميرة..حيث ما تلبث تلك النعم أن تحط رحلها في بيادر أم دقرسي حتى يقبل عليها القوم بسواعد سمراء و بدافعية غلابة فيحيلونها أشياء أخرى و يستبدلونها بالذي هو خير..من كافة صنوف الزرع و الضرع . و قد عرفت أم دقرسي بأنها "أرض غرس" بامتياز و لعه من هنا جاء اشتقاق التسمية مع تحريف طفيف.
تتألف التركيبة السكانية للقرية من أفخاذ و بطون عديدة من الرفاعة والصواردة والجعليين و بعض الكواهل؛ يشكلون فيما بينهم نسيجاً اجتماعياً لحمته الإخاء والوفاء والمروءة والنفير و رتقاً أنسانياً يجعل منهم أنموذجاً حياً في بلادي تجده أينما حللت.
ومن عجب أن لأهل أم دقرسي عادة قديمة تعود بهم إلى العام 1948 كانت في وقاع الأمر بمثابة عقد اجتماعي أبرمه سلفهم فيما بينهم ثم صار قانوناً صارماً ملزماً للجميع؛ حينما قطع هؤلاء عهداً على أنفسهم و ختوا كلمة رجال بألا يتناول أحد منهم قط مشروب الشاي و لا يقدمه لضيف في أية مناسبة مأتم ..كان ذلك لسبب بسيط هو عزمهم على التحرر من عبودية "الخرمة والقريفة" في ظروف كان شحت فيها سلعة السكر؛ حتى لجأ البعض إلى شراب الشاي الباجقلي والقهوة بالتمر. فقرروا مقاطعتها بلارجعة. هذا درس علنا نستوعبه في وضعنا الحالي المماثل. و أما من يلقى القبض عليه متلبساً في مائدة فراش بكا و في يده كباية شاي أو فنجان جبنة فالويل له وثكلته أمه.. حيث تعقد له على الفور محكمة ناجزة محلفيها من أعيان البلد لكي توجه إليه تعنيفاً شديد اللهجة و تعيره بنعوت ليس بأخفها أنه بطيني و ذو نفيسة صاقطة جعلته يكسرالقانون ويشذ عن سمت السابقين واللاحقين من أهله في أم دفرسي.؛ هذا فضلاً، بطبيعة الحال، عن فرض غرامة على الجاني لا تقل عن طاشر رطل سكر ولا تزيد عن رطلين بن حبشي يلزم بتسديدها لدى أمانة صندوق دعم التنمية بأم دقرسي.
يا سلام عليك يا ود الأصيل يا رائع...
ويا سلام على (أم دقرسي) تلك القرية الحالمة الواقعة على الشاطئ الغربي للنيل الأزرق بين بلدتي (أبو عشر) و(التكلة أبشر)....
لقد عرفت أم دقرسي منذ نعومة أظافري إذ كان لنا أستاذ بمدرسة المناقل الأولية الغربية (ذات الرأسين) من هذه القرية الجميلة واسمه حسن محمد عبد الله...
ومن أجمل ما سمعته عن قرية (أم دقرسي) أن أحد العلماء الشناقيط، وهو شيخ محمد الأمين الموريتاني، قد استقر بهذه القرية، وتزوج بامرأة من أهلها واشترى منزلاً أقام فيه هو وأسرته، وذلك بعد فترة طويلة قضاها بالسعودية... الشاهد أن هذا الشيخ عندما وصل إلى أم دقرسي ورأي ما بها من طبيعة خلابة وحياة بكر، وتأمل تلك الخضرة والنضرة والأشجار الوارفة التي تحيط بضفتي النيل، يقول: (لما رأيت هذه النعم الوفيرة طرق ذهني على الفور قول المولى عز وجل: لقد كان لسبأ في مسكنهم آية، جنتان عن يمين وشمال)...
ولي اجتهاد شخصي في أصل اسم القرية...
يقال أنه كانت هناك امرأة تقيم بهذا المكان على شاطئ النيل الأزرق، وكانت تعرف بلقب (أُم دَقْ)... افتقدت هذه المرأة ابنها ذات يوم وجعلت تولول وتجقلب وتقيم الدنيا ولا تقعدها ظناً منها بأن ابنها ربما يكون قد غرق في النهر... وكان عقلاء الناس يحاولون تهدئة ثائرتها حتى يستطيعوا فهم الموضوع والبحث عن الولد المفقود.. فكانوا يخاطبونها: أُم دَقْ أرْسِي... أم دق أرسي... أي اهدئي واثبتي في مكانك، وبطِّلي الجقلبة والبطبطة البتسوِّي فيها دي.... أيه رايك يا ود الأصيل....
مشكور يا أبو حازم، وحاول كل مرة أتحفنا بنبذة عن قرية من قرانا الجميلة... المرة الجاية خلِّي كلامك يكون عن: (أم صفقاً عُراض)!!