هناك مصادفات غريبه وعديده تمر علينا جميعا في حياتنا .لا نعلم إذا كانت مجرد مصادفات عابرة أم أن لها معني آخر نجهله . ما حدث لي أعتبرها صدفة غير عادية .
عندما إلتحقت بمدرسة عطبرة الثانوية في منتصف السبعينات من القرن المنصرم وجدت نفسي في داخلية (فريجون) سنة أولي فقط كانت ستة فصول . هذه الداخلية كانت تحتوي علي غرف صغيرة . في هذه الغرفة وجدت شخص يسكن معي يشبهني في الطول واللون .. شخص مبتسم دائما .. عندما تقربت منه وتعرفت عليه علمت أنه أول الشهادة السودانية إلي المرحلة الثانوية حيث كانت الإمتحانات والنتائج موحدة لكل أنحاء السودان وأذكر أنه كان تحصل علي مجموع 226/240حيث لم توجد الدرجة الكاملة أو حتي شبه الكاملة في ذلك الزمن الجميل مهما بلغت من النبوغ والذكاء حدا لا يوصف عكس زماننا هذا حيث تجد الدرجة الكاملة في الأساس وأكثر من 90% في الشهادة الثانوية ربما في البيت الواحد وهذه المقارنة ربما أقرب لحال الجنيه السوداني أيام زمان وفي وقتنا الحالي.
هذا الصديق أسمه محمد عبدالغني أحمد هو الآن يحمل الجنسية الأمريكية ومن أشهر الأطباء هناك وأستاذ في جامعاتها وما زال التواصل مستمر بيننا.
عندما دخلت جامعة الخرطوم قادتني الصدفة أيضا أن أسكن بداخلية (مروي) وأيضا وجدت شخص من نوع آخر يشاركني نفس الغرفة علمت فيما بعد من زملائي أنه أول الشهادة السودانية المساق الأدبي .. يا لها من صدفة غريبة ومدهشة .. لكنني دائما أسأل نفسي هل هذه مجرد صدفة ؟
كان عبقريا حتي في حركاته ..وتعامله .. يحمل دائما ورقة صغيرة في يده ويحمل في الأخري قلم جاف مستهلك .. لم أسأله يوما عن سر هذه الورقة (في زماننا لم تكن هناك شلاقة ) .
من مواصفات العبقري أنه في الغالب أصلع أو غزير الشعر أو يميل طباعه للغضب السريع أو الهدوء المفرط إلا أنه لم يكن من أمثال هذا أو ذاك . بل كان مبتسما علي الدوام وكأن هذه الإبتسامة عنوان أو دليل ثقة بالنفس يساعده في ذلك أسنانه البيضاء والمتراصة بشكل متناسق وأنفه المثالي في وجهه الصبوح .
كنت ألاحظ في الأيام الأولي من المحاضرات أمام القاعة (102) والأنظار تتجه إليه يطأطؤ رأسه إلي الأرض ولم أجده ينظر للسماء .
لي معه ذكريات ومواقف لن أنساها . ذات مرة وأنا أقف ولأول مرة مع زميلة(كنت أشعر بالرعشة من صوف راسي لي كرعي ) كما قال شاعرنا الرائع أبو القطاطي وتغني بها فنان الأجيال وردي (يرحمه الله)
لمحته يمر بجانبنا مبتسما كعادته عندها شعرت براحة نفسية وتوقعت منه إشادة أو كلمة طيبة بعد رجوعنا للغرفة . ربما يستغرب الكثير منكم لهذا الشعور الغريب وفد لا يعرف الكثير منكم بأن هذه الوقفات واللقاءات مع الجنس الآخر لم تكن متاحا ومرغوبا مثل زماننا هذا حتي لبس التوب السوداني الأبيض كان مفروضا عليهن من المجتمع داخل الحرم الجامعي .
كنت قد رجعت قبله للغرفة وكنت في إنتظاره . دخل الغرفة .. نظر إلي .. تخيلوا ماذا قال !! قال بالحرف الواحد ( بالله شوف الرطاني دة فرحان كيف تقول إتونست مع ..........) بالمناسبة صاحبة هذه النقاط كانت في قمة الروعة والجمال .
وذات مرة حضرت ملتقي للشعر الحلمنتيشي داخل النشاط لشاعرين رائعين . أبدع فيه إبن كليتنا أسماعيل نوح وكنت قد لمحت صديقي في الطرف الآخر . عندما رجعنا إلي الداخلية بعد منتصف الليل تولد لي إحساس بأنني أتفوق عليه في سرعة الحفظ وبالفعل بدأت أقرأ له مقطع مما سمعته من الشعر (وإن لم تخني الذاكرة) قرأت له مطلع قصيدة لأسماعيل نوح عن طالبة جديدة (برلومة) دخلت كلية العلوم وسألت مكان الكلية للتسجيل .
قلت له :- قالت لي ... أسجل وين
تسجلي وين ؟؟
تسجلي جوه..جوه الجوه..جو العين
ما قلبي لكوندة للدايشين
سكن مجان بدون خمسين
هل تصدقوا عندما إنتهيت .. واصل هو في باقي القصيدة فحسبته هو الذي ألفها وإسماعيل الثاني هو الذي ألقاها .(ما شاء الله تبارك الله)
ذات مرة إتجهنا معا لحضور محاضرة مررنا معا بكلية الآداب إلي كلية الإقتصاد حيث إستوقفني طالب بصوت منخفض وكعادته ولأدبه لم يلتفت وواصل مسيره. سألني هذا الطالب لا أدري أسمه أعتقد أنه كان في السنة النهائية بالآداب قال :- ما مشكلة صديقك الذي كان معك . رددت أي مشكلة ؟ قال :-زميلك هذا نجده معنا أحيانا كثيرة يحضر معنا ويناقش بحور وعلوم الشعر العربي . الحقيقة لم أصدقه ولم ألاحظ ذلك من قبل ولم أراه يوما متجها لهذه الكلية .
تقديرا له وخوفا علي مستقبله وجهت له السؤال التالي ناصحا :- كان بإمكانك الإلتحاق بأي كلية ترغبها لماذا لم تحدد ميولك الدراسية حتي الأن . أجابني بحدة ولأول مرة قائلا (لو سألك تاني قول ليه أنا بدرس رغبتي وأمشي أضايقهم في رغباتهم ) ثم أضاف مبتسما أنا أشكرك علي شعورك الطيب نحوي . عندها علمت أن الإجابة الأولي موجهة لطالب الآداب فحمدت الله .
إلا أنني لاحظت ومع حبه للطرفة والمزاح البرئ إلا أنه وبعد أن بدأ رأسه يشتعل كما هو حالي الآن لم يكن في مقدوره التمييز بين المزاح والجدية ومن أفرب الناس إليه (واللبيب بالإشارة يفهم)
في إعتقادي أفضل من يحفظ وينطق اللغة النوبية وما ذال يحفظ أبيات صعبة من أغنيتين بالرطانة من قبل ثلاثة عقود
فوجئت عندما ذكر لي في رسالة خاصة بأن لهجتنا لا تحتوي علي حرف العين وهذة حقيقة غائبة عند معظم الرطانة . وللمعلومة أيضا لا يوجد حرف الغين ولا توجد أي كلمة تبدأ بحرف الراء . والغريب لدينا حرف الجيم لكن تحته ثلاثة نقاط . لا أدري كيف تنطقونه يا معشر العرب ؟
قبل مدة وفي إتصال هاتفي شبهته بصديقي محمود لو تذكرونه في (رحلتي إلي الرياض) حيث أنه ترك الدراسة من السنة الثالثة أولية رغم تفوقه وصديقي هذا بالرغم أنه نال شهادته من أقدم وأعرق جامعات السودان وفي ذلك الزمن الجميل إلا أنه لو واصل في أي مجال في الشعر .. وغيره لملأ الدنيا .. وشغل الناس بالرغم من يقيني أنه إتضح ملامح هذه الحالة النادرة لديكم ولكن لا مانع علي التأكيد ..إنه إبن العريجاء (أسماعيل البشير )