[center]d]]كان مشهدا وحيدا متكررا في ذاكرته يحاكي في قسوته لسعة السوط علي ظهر عار،كانت الصورة التي تبقت من أخيه هي صورة غائمة لرجل ينتزع أقدامه بصعوبة من براثن الرمال محاولا الوقوف والسير ثم ينكفئ علي وجهه بشفاه متشققة علي الرمال ، يسكن الجسد النحيل قليلا ثم ينهض من جديد مترنحا مصرا علي المسير ثم يسقط من جديد،وفي المرة الاخيرة طال السقوط وهمود الجسد وهو يوغل في سيره إلي الامام خوف ان يدركه ما أدرك أخيه قبل الوصول إلي ملاذ آمن. كانت الصحراء مترامية الاطراف أمام الأعين وليس ثمة أثرللحياة في كل الاتجاهات... فقط تلال من الرمال الذهبيةالمتعرجة وأزيز رياح عاتيات يصرخن كأنهن مردة من الجن تلهو باجساد الضحايا الصغيرة وتصب علي وجوههم وشفاههم جام غضبها.ليس أمامهم سوي المسير إلي أمام ليسوا واثقين انه أمام أم خلف...كانت تلك الرحلة قد بدأت بالبحث عن الحياة الأفضل وانتهت إلي التشبث بأمل ضئيل في البقاء علي قيد الحياة والرجوع من الغنيمة بالأياب. بدأ كل شئ حين تحدث مفرح معه عن ضرورة الهجرة حين كانا في بادية كردفان حيث مراتع الطفولةوالصبا، قال له مفرح وعيونه تلتمع ان ثمة حياة أخري غير حياة امتطاء النوق والبحث عن طعامها عبر مسارات باتت ملئية بالمخاطر والموت الكامن في بنادق النهابة وعصابات القبائل المسلحةوبنادق المتمردين علي الحكومة،كان هو أكثر حذرا وأقل رغبة في المخاطرة ولكن حسب الله سمسار المهاجرين الذي افرغ القري من شبابها ظل يطاردهما بمعسول الكلام والوعود حتي ألفيا نفسيهما علي ظهر عربة لاند كروزر عتيقة تنهب الطريق بهم إلي (نيالا) بعد ان حصل حسب الله منهما علي خمسمائة جنيه عن كل رأس واقنعهما بأن الرحلة إلي ليبيا عبر الصحراء اسهل من شراب الماء، كانت العربة تكركر وهي تتوقف في القري عبر الطريق لتجمع المزيد من النقود والحالمين بالهجرة. في (نيالا) استلمهم رجال اشداء حملوهم عبر الصحراء إلي غابة تقع بالقرب من (كتم) حيث انزلوهم في حراسة مشددة وبعد يومين من المبيت في العراء اشرفوا علي حشرهم بالمئات علي ظهر شاحنة مرسيدس ضخمة فاضت بحمولتها وضاقت فاجبروهم علي صناعة طايق ثاني للعربة بقطع جذوع الاشجار ورصها فوق حواف العربة فوق رؤوس من بداخلها لكي تحتمل حمولة اخري فوق السطوح المصنوعة ومن ثم انطلقت العربة بحمولتها صوب الصحراء تتبعها عربة لاندكروزر صغيرة بها مجموعة مسلحة. بعد مسيرة طويلة في الصحراء توقفت الشاحنة تماما نتيجة عطل ما وتدلي السائق منها وبعد عدة محاولات اعلن انه سيعود بالعربة الصغيرة لاحضار اسبير للشاحنة واختفت العربة الصغيرة .وبقي ركاب الشاحنة وحدهم ليواجهوا مصيرهم... مئتان وخمسون رجلا بحوزتهم ماء قليل وزاد شحيح في صحراء قاحلة بجوار عربة متعطلة.
تناقص الماء والزاد والسائق لم يجئ كما وعد والطريق ليس مطروقا ولا يوجد أثر للحياة، المتشائمون قرروا ان الافضل هو التحرك بلا ابطاء لان الواضح انهم تركوا للموت ولن يأتيهم أحد، البعض قال ان الحكمة أن يبقوا حيث هم حتي لايتعذر أنقاذهم، وفي الاخير وبعد ان لم يبق سوي الماء الموجود بالسيارة نفسها لتبريد الماكينة بدأت مجموعات تتحرك للنجاة بنفسها...كان علي ومفرح في أحدي المجموعات الباحثة عن النجاة،ساروا بجنون وحماس دون اكتراث بالزمن والمسافات او بمن تساقطوا في الطريق فلم يكن ثمة مجال للتوقف، فقط حين سقط مفرح لم يستطع علي ان يتركه فعاد اليه واسنده علي كتفه وعاونه علي المسير وحين وهنت قدماه وسقط أرضاحمله علي ظهره وسار به اقصي ما أستطاع ثم لم يعد الجسد قادرا علي السير بما يحمل، أخذ هو نفسه في الترنح ولكنه صم أذنيه عن صوت أخيه الخافت الذي يطلب منه ان ينجو سعد فقد هلك سعيد، لم يتخيل أبدا ان ذلك ممكن الجدوث، وظل يحمله ويسقط وينهض وهو عازم علي عدم التخلي عنه،ولكنه أيقن في النهاية ان من المستحيل ان ينجوا سوية فاذعن لهمس اخيه وواتته شجاعة التقدم علي أمل ان يلحق اخيه به كما وعده....ولكنه ظل يسقط وينهض
يسقط وينهض.... ثم سقط ولم ينهض مرة أخري..... ظل هو يلتفت إلي الخلف والمسافة بينه وبين أخيه تتسع حتي لم يعد ير سوي الرمال ولم يعد يسمع سوي صوت عويل بداخله يمده بطاقة خارقة تعينه علي المسير قدما.
صلاح الدين سر الختم علي [/center[/b]