بسم الله الرحمن الرحيم
لمسة وفاء لأستاذ الأجيال
أستاذنا/ إبراهيم بشير علي
أرأيْتَ أشْرَفَ أو أجَلَّ مِن الذِي *** يَبْني ويُنْشِئُ أنْفُسـاً وعُقـولا
المربي الفاضل، والمعلِّم الخلوق، إبراهيم بشير علي، هو رجل من أهل مدينة الكاملين العريقة، التي أنجبت الكثيرين من العمالقة من أمثال المؤرخ السودني الكبير، مكي شبيكة، والبروفيسور/ مبارك علي كرار (أبو الزينة)، عميد كلية الصيدلة الأسبق، والدكتور/ عوض عمر، مدير معمل استاك، وغيرهم كثير. والأستاذ/ إبراهيم بشير هو أول من افتتح مدرسة العريجاء الأولية عام 1962م، بعد ست سنوات من استقلال السودان، حين تم اختيار العريجاء كقرية نموذجية، وتقرر إقامة عدد من المرافق الخدمية بها، باعتبارها أم للقرى المجاورة لها. وكان الأستاذ إبراهيم حينها شاباً في مقتبل العمر، يتدفق حيويةً ونشاطاً، هذا بالإضافة إلى ما حباه الله به من شمائل فطرية.. كدماثة الخلق، وكرم الشمائل، وحلاوة المعشر... كان هو المعلم الوحيد في تلك المدرسة التي بدأت بفصل واحد، كان مقره (بيت المجلس). هذه الدفعة الأولى كانت دفعة ناس رياض، ومرجي، ويوسف عوض الكريم، وعباس بخيت، ومضوي رحمة، والطيب فضل الكريم، وأبو رجيلة، وسالم، والعاقب، والإمام المليح، وبشير عبد المطلب، وعبد الحميد حسن.. وغيرهم كثير.
نحن كنا حينها صغاراً لم ندخل المدرسة بعد، ولكننا كنا صبيةً مميزين، نأتي أحياناً لنتفرج على هؤلاء التلاميذ عبر الشبابيك، وهم يؤدون نشيد: ( شمس الضحي ) والأستاذ إبراهيم يقف أمامهم:
أشرقَتْ شمسُ الضُّحَى *** في السَّمـاءِ في السَّمَـا
في السَّمَـاء الصَّافِيـة
وهي تُعْطِي مَنْ صَحَـا *** صَحَّـةً... صَحَّــةً
صَحَّـةً وعَـافِيـة
يرددون هذا النشيد بلحنٍ جميل، وهم يحركون أيديَهم مع كل مقطع شعري، ويلوحون بها تارة نحو الشرق، وتارةً نحو السماء، ويحركون عضلاتهم الصغيرة عند المقطع الأخير الذي يتحدث عن الصحة والعافية.
وكان الأستاذ إبراهيم بشير يدرس كل الحصص لوحده؛ لأنه لم يكن بالمدرسة معلمٌ سواه، وأذكر أنه عندما حلَّ عيد الاستقلال في مطلع عام 1963م، عمل الأستاذ إبراهيم على تنظيم احتفال بذلك العيد لا أظن أن القرية شهدت له مثيلاً، قبل ذلك التاريخ أو بعده، حيث نظم التلاميذ في طابور واحد طويل يتقدمهم تلميذ يحمل علم السودان، وانطلق هذا الطابور يجوب شوارع القرية، التي كانت مخططة تخطيطاً بديعاً، وهم يرددون هتافات وأناشيد وطنية... ثم عاد التلاميذ إلى المدرسة لينخرطوا في برنامج بديع يحتوى على العديد من الفقرات الترفيهية، من منافسات رياضية، ومجادعة بالدوبيت، وخلافه.
وعندما تم بناء مدرسة القش في العام التالي، وصار في المدرسة فصلان، (أولى) و(ثانية)، تم استقدام أستاذين إضافيين، هما الأستاذ/ سعيد محمد أحمد، والأستاذ/ محمد زين كنَّان (من تنوب)، لينضمَّا إلى الأستاذ/ إبراهيم بشير. ثم جاء بعد ذلك الأستاذ إبراهيم المنَّا (من المناقل)، والأستاذ/ عبد الجليل محمد أحمد، والأستاذ/ عبدُ اللهِ الصدِّيق (من عبود).
كان المعلمون في ذلك الزمان، غاية في الصَّرامة والشدة على التلاميذ، حتى أننا كنا نشعر أنهم يستمتعون بعقابنا وجلدنا بكل ما يتاح لهم من وسائل ... (سوط عنج)، أو(بسطونة)، أو غصن من (النيم) أو (العوير) وغيرها. وكنا كثيراً ما نسمعهم يرددون عبارات من نحو: ( العِلمُ يرفعُهم، والضربُ ينفعُهم )، و( لأضربنَّكم ضربَ غرائبَ الإبل )، إلا أن الأستاذ إبراهيم بشير كان هو الاستثناء الوحيد.. إذ لم يكن ميَّالاً على الإطلاق للجلد والعقاب إلا في حالات محدودة، ربما تستوجبها ضرورات التربية والتقويم الخلقي والأكاديمي. وكان لا يكاد يخرج عن هدوءه ورزانته إلا إذا بدر من أحد التلاميذ ما ينم عن وقاحة أو سوء أدب. وكنا نحس بأنه أبٌ لنا جميعاً، وليس مجرد معلِّم ومربٍّ، فقد كانت لمسة الأبوَّة، بكل ما فيها من لطف وعطف ورحمة؛ تتضوَّع منه، لتتسلل إلى قلب كل تلميذ في الصف. وقد كان هذا طبع فطري فيه، وليس خلقاً متكلفاً... قال أبو الطيب المتنبي:
لأنَّ حِلْمَـك حِلمٌ لا تَكلَّفُـهُ **** ليسَ التكحُّلُ في العينينِ كالكَحَلِ
والكَحَل: هو الكُحْل الذي يكون في العين خلقةً طبيعية، وليس شيئاً مصنوعاً.
وقد عرف الأستاذ إبراهيم بالتقوى، والورع، والوقار، وحسن السمت، والمحافظة على الصلاة، وغيرها من شعائر الإسلام. ومن أقواله وحكمه التي أذكرها له ولا أنساها، أنه كان عندما يضع لنا امتحان، ونسأله عن الامتحان أسهل هو أم صعب، كان يجيبنا كالآتي: (الامتحان ساهل للناس الذَّاكروا، وصعب على الناس الما ذاكروا !!! ).
ظلَّ الأستاذ/ إبراهيم بشير يدرِّس بمدرسة العريجاء على مدى 14 عاماً كاملة. وذلك لأنه كلما جاءته (نقلية)؛ ذهب وفدٌ من أعيان القرية إلى العزَّازي أو المناقل ليوقفوا تلك (النقلية)، ولم يسمحوا له بالانتقال إلا عندما أقنعهم بأن ترقيته قد أصبحت مربوطة بانتقاله إلى مدرسة أخرى.. وقد شهد الأستاذ إبراهيم تطور المدرسة عبر هذه الحقبة المديدة من الزمن، بدءاً من فصل واحد في بيت المجلس، مروراً بمدرسة القش، ثم مدرسة الطين (الطوب النيئ)، وانتهاءً بالمدرسة الحالية، المبنية من الطوب الأحمر (الآجُرّ). ومما يدلك على طول فترة بقائه بمدرسة العريجاء أن الأستاذ/ يوسف عوض الكريم، الذي كان أحد تلامذته في أول دفعة، أدركه في نفس المدرسة وعمل معه معلماً بها، وذلك عندما جاء إليها مدرساً تحت التدريب، حين كان في السنة النهائية بمعهد التربية الخرطوم.
تنقلنا في دراستنا من مدرسة العريجاء الصغرى إلى مدرسة المناقل الأولية الغربية (ذات الرأسين)، ثم المناقل الأميرية الوسطى (الثانوية العامة بعد ذلك)، ثم مدرسة النيل الأزرق الثانوية بمدني (تحمل حالياً اسم مدرسة السني)، ثم جامعة الخرطوم... وعبر هذه المدة تتلمذنا على عشرات الأساتذة والمعلمين، الذين ندين لهم كلهم بفضلهم علينا، ونحفظ لهم حقهم، إلا أنني شخصياً لم أجد في كل هؤلاء الأساتذة مثيلاً لأستاذي الأول إبراهيم بشير علي، وأنا إذ أذكره في هذه المساحة؛ لأحس بالخجل والتقصير إذ أننا لم نفه حقه من التكريم والتقدير والتبجيل، وهو الذي كان يردد على مسامعنا قول أمير الشعراء:
قم للمعلِّم وفِّـهِ التبجيلا **** كاد المعلم أن يكون رسولا
كان الأستاذ إبراهيم بشير بالإضافة إلى دوره التربوي والتعليمي الرشيد بالمدرسة، مواطناً صالحاً بالقرية، وعضواً فاعلاً في كل المجالس الإدارية والخدمية بالقرية، مثل المجلس الشعبي، والوحدة الأساسية، ومجلس الآباء. العجيب أنني لاحظت أن لأهل الكاملين فضل كبير – بعد الله تعالى – على أهل العريجاء، فبالإضافة إلى هذا المربي الفاضل الذي افتتح المدرسة الأولية بالقرية عام 1962م، هناك أيضاً شخصيتان من أهل الكاملين كان لهما دور ريادي في مضمار قطاع الخدمات بالقرية، وهما المساعد الطبي، عامر الشيخ، الذي افتتح شفخانة العريجاء عام 1963م، والحاج برعي عثمان (رحمه الله) الذي أنشأ بالشراكة مع الحاج أحمد محمد دفع الله (من الكريمت) الطاحونة والطابونة بالقرية عام 1964م. وكأني بالأستاذ إبراهيم بشير هو الذي دلَّ هذين الرجلين على القرية، التي كانت حينها قرية كبيرة وجميلة، قبل أن يرتحل عنها الكثيرون، مثل فريق المساعيد برمته، وفريق السليمانية برمته، وبعض أسر العوامرة والحراحيف.
إسماعيل بشير علي