[ اجتنبوا كثيرا من الظن ] ، ( إياكم والظن )
يقول الإمام القرطبي-رحمه الله-في تفسير الآية
قال علماؤنا:فالظن هنا وفى الآية: التهمة،ومحل
التحذير النهي:إنما هو تهمة لا سبب لها يوجبها،كمن يُتهم بالفاحشة أو بشرب الخمر مثلا،ولم يظهر
عليه ما يقتضى ذلك،ودليل كون الظن هنا بمعنى التهمة قوله:{ولاتجسسوا}وذلك أنه قد يقع له خاطر التهمة ابتداءً ويريد أن يتجسس خبر ذلك ويبحث عنه،ويتبصر ويستمع لتحقيق ما وقع
له من تلك التهمة،فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك)0 (10)
فالمراد بالظن – كما سبق – التهمة المجردة عن الحقيقة المبنية على الأوهام والشكوك . والظن المنهي عنه في الآية والحديث ، هو الظن الموصوف بأنه ( أكذب الحديث )
(لأنه لا يستند إلى شئ يجوز الاعتماد عليه ، ويجزم به فيكون الجازم به كاذباً ، وهو أشد من الكذب ، لأن الاغترار به أكثر من الكذب لخفائه غالباً ).(11)
وقيل المراد : ترك تحقيق الظن الذي يضر بالمظنون به(12) ،( وذلك أن أوائل الظنون إنما هي خواطر لا يمكن دفعها ) (13).
(1/4)
--------------------------------------------------------------------------------
ولا فرق بين المعنيين من حيث المقصود ، لأن الخواطر الطارئة في الذهن لا تكون سبيلاً إلى تهمة الغير بلا دليل .
لماذا ذكر التجسس بعد الظن ؟
قيل : لأن القلب لا يقنع بالظن ويطلب التحقيق فيشتغل بالتجسس . وذلك أن الشخص يقع له خاطر التهمة فيريد أن يتحقق فيتجسس ويبحث ويستمع ، فنهى عن ذلك فدل سياق الآية والحديث على الأمر بصون عرض المسلم غاية الصيانة = لتقدم النهي عن الخوض فيه بالظن ، فإن قال الظان أبحث لأتحقق ، قيل له : ( ولا تجسسوا ) فإن قال : تحققت من غير تجسس قيل له كما في الآية ( ولا يغتب بعضكم بعضا ) (14).
وأيضاً عند تحقيق الظن يأتي قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( من ستر مسلماًًً ستره الله في الدنيا والآخرة )البخاري ومسلم. وهذا مما يبين حرمة المسلم عند التحقيق من الخبر فكيف بسوء الظن !!
مقاصد النصوص
هذه النصوص تقيم مبدءاً في التعامل بين الناس ، وسياجاً حول حقوقهم ، فلا يؤخذون بالظن ولا يحاكمون بريبة ، ولا يصبح الظن أساسا لمحاكمتهم ، بل لا يصح أن يكون أساساً للتحقيق معهم ولا للتحقيق حولهم . ومعنى هذا أن يظل الناس أبرياء ، مصونة حقوقهم ، حتى يتبين بوضوح أنهم ارتكبوا ما يؤاخذون عليه .
وهذا فيه تعظيم حرمة المسلم ، وعدم انتهاك الأعراض . فالمسلم لا يسير مع هذا الاتجاه اللئيم في تتبع عورات الناس ، وكشف سوءاتهم .
فالناس على ظواهرهم وليس لأحد أن يتعقب بواطنهم ، بل – أكثر من ذلك – ليس لأحد أن يظن أو يتوقع ، أو حتى يعرف أنهم يزاولون في الخفاء مخالفة ما(15) .
مظاهر سوء الظن
1- الولوغ في المعاصي والسيئات ، بمخالفة النهي الرباني ، وكثرة الظنون السيئة .وكفى
بهذا المظهر ترهيبا لمن له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
2- التقصير في أعمال البر ، مثل : عيادة المريض ، ورد السلام ، وإجابة الدعوة ، والتزاوج ، ومساعدة ذوي الحاجة .
تنبيه /
(1/5)
--------------------------------------------------------------------------------
هذه الأمور قد تترك من قبل سوء الظن لمن كان في حاجة هذه الأمور . وقد تترك بعذر إما لعدم العلم بها ، أو القيام بواجب أكبر ، أو غير ذلك ، فيظن سيء الظن أن هذا التقصير نشأ من التكبر والاستعلاء ، أو من الاحتقار وعدم الاهتمام ، أومن البخل والشح ، وهكذا ...(16)
أسباب سوء الظن
1- سوء النية وخبث الطوية .
إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه وصدق ما يعتاده من توهم
وعادى محبيه بقول عداته وأصبح في ليل من الشك مظلم (17)
ومن مظاهر سوء النية : كثرة الحكم على الأشخاص .
فترى وتسمع رمي ذاك ، أو هذا بأنه : إخواني ..تبليغي .. مقلد متعصب .. متطرف..متزمت ..أصولي .
وفي السلوك : مداهن . مراء . عميل.. فإذا رأوا داعية ثنى ركبتيه للدرس ولم يجدوا عليه أي ملحظ ، دخلوا في نيته وكيفوا حاله وقالوا – يترصد الزعامة – محترف بالعلم(18) .
2- عدم معرفة المنهج الصحيح في الحكم على الأشخاص . والمنهج الصحيح يتمثل فيما يلي :-
أ النظر إلى الظاهر وترك السرائر إلى الله ، فهو وحده المطلع عليها ، العليم بكل مافيها وعند البخاري ومسلم في قصة أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: بعثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سرية... فأدركت رجلاً فقال: لا إله إلا الله، فطعنته فوقع في نفسي من ذلك فذكرت للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( أقال لا إله إلا الله فقتلته)) قلت: يا رسول الله إنما قالها خوفًا من السلاح، قال
أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا ) ؟! فما زال يكررها علي حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ .......الحديث.
ب الاعتماد على الدليل والبرهان . قال تعالى ( قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين )
جـ - التأكد من صحة هذا الدليل أو ذلك البرهان . قال تعالى ( يا أيها الذين ءامنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا ...) سورة الحجرات.
د- التأكد من عدم تعارض وتضارب الأدلة .(19)
(1/6)
--------------------------------------------------------------------------------
3- اتباع الهوى : إذا صار الهوى هو القائد للإنسان فإنه يقع لا محالة في الظنون الكاذبة التي لا دليل عليها ولا حجة نظراً إلى أن حب الشيء يعمي ويصم ، كما أن البغض يستوجب التماس العثرات ، وتصيد الأخطاء ، فمثلاً إذا مال الإنسان بهواه إلى آخر فإن هذا الميل ينسيه أخطاؤه ويحمله على تحسين الظن به وإن كان مخطئا في الواقع .
وإذا أبغض الإنسان آخر – ولا يميل إليه بهواه – ولم يكن هذا الإنسان منصفاً فإن هذا البغض يحمله على سوء الظن به ، وإن كان مصيبا في الواقع (20) كما قال الشاعر:
وعين الرضا عن كل عيب كليلة كما أن عين السخط تبدي المساويا