حكايات من حلتنا ***********(قصص من قلب الواقع )
حكاية البتول
بركة الجمعة الجامعه والكلمة السامعه
هكذا قالتها البتول وهي تصب عرقا ٍ وتعتصر من الالم والوجع المتراكم علي مر السنين وهي تتجول في سوق (الاحد) احد الاسواق الطرفيه في مدينتنا القرية بتواصل اهلها وتكاتفهم وكان يتجول معها ابن ولدها (اليتيم بن اليتيم) الذي مات والده في حادثة موت جماعي لحظة هيجان النيل في صباح صيد حزين ارتوي فيه الثري من دموع المراكبيه والمراكب والترابله وما امر طعم دموع الكادحين البسطاء والنيل يقول هل من مزيد ؟ رغم انه ينضح حياة وما اكثر حوادث القتل في بلدا سقط نصفه سهوا وتهشهش الباقي بين الاتفاقيات الجزئية والحروب القبلية والمشاورات الشعبيه والترضيات الفردية والمتمردين وقطاع الطرق والرباطيه والارزقيه وبات لن يستطيع احد ان يبلغ فيه غاية
البتول امراه سبعينية قمحية اللون وقوامها ابنوسي عيونها فاترة وشعرها ابيض كالشب شفاهها مدقوقة وشلوخها نيليه عركتها الحياة بماسيها فعركتها هي بصبرها وحكمتها وبصارتها
انها استطاعت ان تربي ابنها الوحيد الذي ارتحل ابوه بين الامواج وهو يواصل استجداء النيل صباحا ليرزق من خيراته , فيبيع مايبيع ويأتي بالباقي للمنزل لتصنع منه قوت اليوم وتمارس في الباقي كل وسائل الحفظ والتخزين – كحيك- فسيخ – ميلوحه – انها لم تأخذ نصيبها من التعليم لأكنها تصنع الويكاب من ابسط المكونات البيئيه
انا اعرفها منذ اكثر من عشره سنوات باسم البتول قالت لي عمتي ان اسمها الحقيقي هو( فاطمة) لأنها بعد موت زوجها رفضت كل الرجال وأهدت حياتها لابنها الوحيد
وكانت مثالا للتواصل الاجتماعي فهي (نكهة طعام) المناسبات الاسرية فلا توجد مناسبة في الحي ولا الاحياء المجاوره الاوتجدها تعد الطعام وتخدم الضيوف حافية وتتفقدهم واحدا واحدا وتقابلهم بابتسامتها الخجلي السمهريه علي الزمن القاسي وتعمل كل مابوسعها علي اراحتهم وتكون اخر المغادرين فأحبها اهل الحي وأحبتهم
البتول كانت تتجول في سوق النساء لشراء احتياجات حفيدها اليتيم كان غلاء الاسعار هو الحاجز الرئيسي بينها وبين تحقيق رغبة حفيدها
انه بلد المفاجاءت .... تستيقظ كل صباح لتجد في انتظارك عالم ملي بالمفاجاءت ارتفاع الاسعار في اسواقنا يرتفع كل ما ارتفع قرص الشمس في السماء ولا ينخفض ابدا ننام لنستيقظ غدا علي وقائع ارتفاع جديدة
وتقاطيع وجه الحاجة يتبلور عندما تسأل تاجرا عن سعر السكر كأنها تسأل عن الدولار في السوق السوداء فهي لأتعرف الدولار ولا العملات الاجنبيه ولكنا تعرف ان في البلد قرابة السبعه مصانع لهذه السلعه
تقول للتاجر كم رطل السكر ؟
يقول لها بخمس جنيهات
تبتسم متوجعة وتقول سمعت ان الوالي طلع في التلفزيون وقال الرطل بار بعه جنيهات
فيقول لها التاجر بكل برود ( امشي جيبيهو من التلفزيون)
وتذهب وهي تحدث نفسها يعني سعر (الربع) اكثر من جنيه ولسان حالها يردد رائعة حميد (ست الدار)
قعدت تخدم طول اليوم
لأمن حرقت الدولاب
قنبت المسكينة تدعي
الله اصرف الخواجات
تتعدد الخدمه والمعاناة هي المعاناة فحاجه البتول في مشوار خدمتها وتحملت كل انواع المعاناة والتعب والارهاق من اجل ان تعيش عيشه كريمه ٍ صنعت الطعميه وباعت الايسكريم (الدار دمه) والفول والتسالي وكانت تتجول بالأواني والملابس والعطور علي منازل الاثريا والميسورين – كانت تبيع ما استطاعت لتوفر احتياجات ابنها حتي اكمل تعليمه الجامعي ولم يوفق في الحصول علي وظيفة لأنه ليس له( ظهر ) وما اسوي ان تكون بلا (ظهر) في زمن كثر فيه الجلد علي البطون – اختار الطريق كالا غلبيه في الاعمال الهامشيه –بيع المناديل علي الارصفه – وبيع المياه (برد) ومابين الكما سره وغاسالين السيارات والطلب وأخيرا راجع للمهنة الوحيدة التي تركها له والده الدرب الوعر الصيد بالطريقة التقليديه فأكله النهر الجائع كابية مخلفا طفلا تولت حاجه بتول تربيته بعد ان اختارت امه ان تستقل بحياتها مع زوجا اخر لا يحب اطفالا ليس من ظهره
تتنوع الحرائق ولكن النتيجة واحده المحصله محيط من الانحطاط الاخلاقي والظلم الاجتماعي وتفشي الموبقات
الحاجه بتول تحترق يوميا ألاف المرات وهي تبحث عن السكر لشاي الصباح انه شاي فارق الاختلاط بالحليب منذ ولوج شريعة هولاء
الشاي لايخطلط بالحليب إلا في العمارات الشوامخ والقصور التي تحوي ثلاجاتها زجاجات العصا ير والمياه الغازيه والمعدنية وكل انواع الكحول
تحترق وهي تحاول توفير وجبة الفطور وتحترق وهي تشتري الكهرباء وتحترق وهي تشتري الشمع لتعوض به انقطاع الكهرباء التي دفعت قروشها مسبقا
تحترق وهي تدفع رسوم النفايات ثم تحترق مره اخري وهي تلمها وتحرقها لتحافظ علي البيت والشارع نظيفا
تحترق وهي تبحث عن العشاء ( يا الله) انهم فارقو وجبة الغداء منذ زمن بعيد
حاجه بتول لا تحترق فقط ان مرض حفيدها – انها تموت وتحي لتوفر له العلاج
(الله يصرف الخواجات)
لوسعت حاجه بتول هذا المقطع لقسمت بالله ان زمن الانجليز كان ارحم
جلست حاجه بتول تحت ظل كشك الجرائد وكان فوق رأسها تماما عنوان في جريده يقول بلسان وزير الماليه (ان دخل الفرد السوداني 1800 دولار)
وحبات العرق تتساقط من جانبيها ضمت حفيدها في حجرها ومسحت علي رأسه بحنان ممزوج بالحزن النبيل وسرحت بخيالها بعيدا .... بعيدا .... ربما كانت تجتر ذكريات من شجون الماضي الجميل
وحفيدها ينظر الي وجهها وهي في شرودها ذلك التزم الهدوء لم يشاء ان يعكر عليها صفو تلك اللحظات ...ربما اعتاد علي ذلك ... انتبهت له عندما شعرت بنظراته المملوه بالأمل مصوبة اليها ...ابتسمت وضمته اليها مره اخري وهمست له في اذنه بحديث ما ....ابتسم ومد يده لها
......حبوبه يلاكي نرجع البيت................................... ألله في
محمد عبد الملك ...................... اكتوبر 2012م
حاولت اكتب عن الواقع وجدته اسوي من الخيال