ذكرياتي عن فقيد العريجاء الراحل الحاج عطية علي عطية
أكتب عنه نتفاً من الخواطر وشتات الذكريات عسى أن يطلع عليها من يترحم عليه ويدعو له بالمغفرة والرضوان..
الحاج عطية علي عطية، المسندابي الحسناوي الكاهلي الصميم (عليه رحمة الله الواسعة) لم يكن شخصاً عادياً بين رهطه وعشيرته آل عطية أو العطيّاب – كما يسميهم أهل العريجاء – ولكنه كان رقماً صعباً وقامة وهامة بين قومه وعشيرته، وكان يتبوأ منصب الزعامة والقيادة في أهله، فهو عميد الأسرة العطيابية بلا منازع .. وقد كان إخوته الذين يكبرونه سناً يستنيرون برأيه ويدعمون مبادراته وقراراته، ويرجعون إليه في كل أمرٍ ذي بال، فهو ينطبق عليه المثل السوداني القائل: (كان حضر شاروه، وكان غاب داروه) .. وكان – عليه رحمة ربه ورضوانه – رجلاً سمحاً كريماً طيب القلب، فقد حباه الله أخلاقاً فاضلة وشمائل عذبة؛ فلم يؤثر عنه قط أنه اشتبك مع إنسان من أهل العريجاء، أو سابّه أو شاتمه، أو دخل معه في خصامٍ أو نزاعٍ أو قضايا ومحاكم ..
كان له معي موقف كريم، لن أنساه أبداً ما حييت، وسوف أظل أحكيه عنه كلما جاء ذكره في مجلس، وأترحم عليه وأدعو له بالمغفرة والرضوان.. كان ذلك في عام 1985 أو 1986م، حيث جاءني ضيف عابر سبيل ونزل عندي في الديوان في المساء، فقررت أن أعشيه (فطير باللبن) أو قراصة باللبن، فاشتريت دقيق الفينو من الدكان، وأخذت بستلتي وانطلقت إلى منزل الحاج عطية لأشتري منه اللبن، وكان الحاج عطية صاحب أبقار ويبيع اللبن لأهل القرية .. عندما دخلت الحوش وجدته جالساً تحت إحدى أبقاره، فرد عليَّ السلام ورحب بي، فلما علم بحاجتي، صاح مخاطباً زوجته: يا (عشة أملي لي سماعين ده ماعونه لبن، وما تشيلي منه أي قروش)، فردت عليه قائلة: (اللبن حق البيع كمل وما فضل منه شي) فقال لها: (طيّب أديه من لبنك الدايرة تروّبيه)، فقالت: (ده ما خلاص روّبناه يا حاج)، فما كان منه إلا أن قال لها: (أملي ليه ماعونه ده كان من لبنك حق عشا الوليدات .. سماعين ده جيتو لينا بالدنيا) .. فخرجت من منزلهم محمّلاً بكرمهم، وبستلتي ممتلئة باللبن، وفلوسي في جيبي لم ينقص منها ولا مليم واحد...
ومن طرائفه ونوادره العجيبة أنه لما علم بأن أنصار السنة لا (يرفعون الفاتحة على الميت) خاطب ابن أخيه خليفة موسى، الذي كان أول من التزم بدعوة أنصار السنة في العريجاء .. ودار بينهما الحوار التالي:
- إتّو يا الخليفة ما بتشيلوا الفاتحة على الميت؟
- نعم ما بنشيل فاتحة، بس بنكتفي بالتعزية الشرعية الواردة عن الرسول (صلى الله عليه وسلم).
- يعني أنا كان متَّ ما بتشيل الفاتحة عليْ ؟؟؟
- أيوه ما بشيل الفاتحة عليك!!
- آها وهِّبونا ساي آ الخليفة، وهبونا وهبونا !!!
في أواخر ثمانينات القرن الماضي، وكنت في إجازة بالسودان، ذهبنا ببص الأخ إبراهيم الزين إلى (أب حراز) لزواج محمد زين موسى محمد زين، وكان المشوار طويلاً وعددنا قليلاً (مجموعة من العطياب أهل العريس وبعض شباب أنصار السنة)، وكان معنا الحاج عطية وشقيقه الصديق (عليهما رحمة الله الواسعة) فلما وصلنا وجلسنا في الديوان؛ قام شيخ الهادي إبراهيم الهادي ليجمع منا (حق المشوار) .. وعلى الرغم من أن الأخ صاحب البص – جزاه الله خيراً – لم يطالبنا إلا بثمن الجاز، إلا أن البعض بدأ يتهرب ويماطل!! أحد الإخوة الشباب من أبناء العطياب ظل يراوغ ويلف ويدور، ثم نهض فجأة وخرج من الديوان، فقال شيخ عبد الله إبراهيم الهادي: (شتااااااااااااات !!)، بعدها اتجه الهادي إلى الحاج عطية، وطالبه بأن يدفع عن نفسه وعن شقيقه الصديق، فرد عليه بكلام فحواه أن (كل شاة معلقة من عصبتها)، ثم همّ بالخروج من الديوان، فخاطبته مداعباً: (شتاااااااااات ؟؟؟)، فرفع قبضة يده ضاماً أصابعه بشدة، وقال لي: (أنا زول صميم كدي، لا بتشتّت ولا بتبشّع !!)..
وكان – رحمة الله عليه – حكيماً محنكاً ذا رأي سديد .. فكان يتحسب للأمر قبل وقوعه، فقد حكي أن أحد أقاربه أو معارفه كان منّاناً، لا يكاد يعطي أحداً شيئاً إلا أتبعه المن والأذى، وقال له لقد أعطيتك كذا وكذا ... وذات مرة أهدى هذا الشخص المنان (قماش جلابية) للحاج عطية، فقبل منه الهدية ولكنه احتفظ بالقماش كما هو دون أن يقوم بتفصيل الجلابية .. وفي أقرب مناسبة اختلف فيها الاثنان، إذا بذلك الشخص المنان يمن على الحاج عطية بأنه أعطاه جلابية، فما كان من الحاج عطية إلا أن أخرج له قماش الجلابية، ودفعه إليه قائلاً: (لأني عارف طبعك وخسايلك، هدي الجلابية قاعدة زي ما هي، أنا لا فصلتها ولا وديتها لي ترزي، دحين شيل جلابيتك والزم حدودك !!) ..
كان الحاج عطية (عليه شآبيب رحمة الله وغفرانه) رجلاً فارعاً، أبيض اللون، وضيء المحيا، وكان أهل العريجاء يسمونه (عطية الأحمر) وذلك لأن له ابن عم أسمر اللون يسكن بجواره اسمه أيضاً عطية، فكانوا يسمونه (عطية الإزيرق).. الحاج عطية هو آخر من رحل من إخوته ورهطه وعشيرته، ولم يبق من أهله الكبار بالعريجاء سوى الحاج ملك الدار عبد الماجد وأخوه علي جريجير ( مد الله في عمرهما في طاعته)..
ألا رحم الله الحاج عطية علي عطية، الرجل الزعيم وعميد الأسرة الحكيم، وجزاه بالحسنات إحسانا، وبالسيئات عفواً وغفرانا، وأنار له في قبره ووسّع له فيه، ولقنه حجته بين يديه، وأمَّنه من الفزع الأكبر، وأدخله الجنة بلا سابقة عذاب ولا مناقشة حساب ... ونقله ومن معه من موتى المسلمين من ضيق اللحود ومراتع الدود إلى سعة جناته جنات الخلود، في سدر مخضود، وطلح منضود، وظل ممدود، مع المقربين الشهود، الركع السجود، الموفين بالعهود، ورحمنا إذا صرنا إلى ما صاروا إليه، وإنا لله وإنا إليه راجعون ...ِ