ذكرياتي عن فقيد العريجاء الراحل خالد موسى كرم الله
أكتب عنه نتفاً من الخواطر وشتات الذكريات عسى أن يطلع عليها من يترحم عليه ويدعو له بالمغفرة والرضوان..
خالد موسى كرم الله، العروابي الكمالابي الكاهلي الصميم (عليه رحمة الله الواسعة) من جيل الدفعة الأولى في مدرسة العريجاء الأولية، لدى افتتاحها في عام 1962م، مع ناس يوسف عوض الكريم، ورياض، وعباس بخيت، وفضل المرجي، والطيب فضل الكريم، وأبو رجيلة، وسالم، والعاقب، ومضوي رحمة، وحسن سعد .. وهو كذلك من جيل الفصل الدراسي الخاص الذي أنشأه الأستاذ عبدالله الزين (أبو عدلي ومحمد الصحفي) في عام 1960م، وكان مقره منزل خالنا أحمد ود شقلي (عليه رحمة الله) .. فهو قد توفي عن عمر يناهز نحو 61 عاماًً.
اشتهر خالد (عليه رحمة الله) منذ صغره بروح الدعابة والمرح، فقد كان أهله يسافرون سنوياً إلى (الصعيد) وهي مناطق أقسام الماطوري والجاموسي، حيث كانت لهم حواشات هناك .. ويعودون في الصيف إلى العريجاء .. وفي ذات مرة عندما عادوا من الصعيد قال خالد لأقرانه من أطفال العريجاء ما لا يمكن أن يصدقه أحد، قال لهم: (هناك في الصعيد الناس بزرعوا طور الجمال وطوالي يقوم جمال) ..
من عجائبه التي تدل على ما حباه الله به من همة عالية وعزيمة لا تنكسر أنه عاد إلى المدرسة بعد انقطاع دام نحو عشر سنوات .. وهو قد ترك المدرسة بعد إكمال الصف الثالث بمدرسة العريجاء الأولية عام 1965م، ولكنه عاد إليها مجدداً من بوابة الصف الخامس، واجتهد وثابر حتى تخطى المرحلة الابتدائية بنجاح، ثم درس المرحلة المتوسطة (الثانوية العامة) في مدرسة ود جار النبي الثانوية العامة، وأكملها بنجاح قبل أن يلتحق بالخدمة العسكرية بالقوات المسلحة السودانية.
ومن أهم ما تميز به خالد أبو منصور (عليه رحمة الله) أنه كان عبارة عن دائرة معارف وموسوعة متحركة في الشعر الشعبي (الدوبيت).. فهو أعظم راوية لشعر الدوباي أنجبته المنطقة برمتها، فقد كان يحفظ منه آلاف المربوعات الشعرية، مما أنتجه شعراء الشرق من أمثال الصادق ود آمنة، وأحمد عوض الكريم أبو سن، وود شوراني، وود شعيت وغيرهم، ومن شعراء البطاحين، وشعراء كردفان، وكذلك من أشعار أبناء عمومته من أمثال عبد الرحيم ود المحينة، ومن أشعار بعض أهل العريجاء من أمثال والده عمنا موسى ود جلي، وجدنا حاج الضباح، وخالنا عمر ود شقلي (عليهم جميعاً رحمة الله تعالى) .. ونحن كلنا نعتبر من تلامذته في هذا المجال، وهو من الذين ساهموا بقدر كبير في تشكيل موهبتنا الشعرية وإخصاب قريحتنا الأدبية... وقد كنت منذ فترة ليست بالقصيرة أفكر في كتابة موضوع عنه في منتديات العريجاء بعنوان (مبدع من حلتنا)، ولكن لم يحالفني التوفيق لكتابة هذا الموضوع حتى حانت منية هذا المبدع، عليه شآبيب رحمة ربه وغفرانه...
مواقفه العجيبة والطريفة كثيرة بما لا يتسع المجال لذكرها جميعاً، ولكنني سوف أكتفي بذكر طرف منها .. فقد جاء ذات مرة من العاصمة ووجد مجموعة من شباب الحي الذين لم يتزوجوا بعد يشكون ما يعانونه من تباريح الهوى وآلام العشق والغرام .. فقال لهم: (إنتو بتعرفوا شنو للحب ؟؟ الحب ده ما تخلوه لي ناس قيس ديلك الكانوا زمان (يقصد قيس بن الملوح مجنون ليلى) .. والله قيس داك من شدة الحب ترا بقى زي توجة دي) وأشار بيده ناحية الجزء الغربي من الكمبو ... الطريف في هذه الملحة أن خالد عقد مقارنة بين قيس الذي كان يهيم في الفلوات يتتبع الغزلان في البراري، وبين توجة (المجنونة) التي كانت (تباري) الحمير في المنطقة الخضراء الواقعة غرب الكمبو...
دخل ذات مرة أحد بيوت الكمبو فوجد حوى النبي مهيمناً على المجال، والناس حوله يستمعون لأشعاره، فحاول حوى النبي أن يداعبه بمربوعة نميم، فأنشد على البداهة:
يا الكمبو أصبحْتْ معاي خِرِّيب
بقيت تلملم ليَّا في المحن الكبار وتجيب
بدور ود الجدي العمعم قفاهو وضيب
يجيك ضاحك بشوش بعد الشمش ما تغيب
فرد عليه خالد على البداهة أيضاً:
يا الكمبو أصبحْتْ معاي بطّال
بقيت تلملم ليَّا في الغرابة و(النُّزَّال)
بدور اللفح ديسو فوق فنيدتو وجال
يقولن ليْ تعال يا خالد ابن الخال
أطرف ما في مربوعة خالد (عليه رحمة الله) وصفه لحوى النبي بأنه من النزال (بنون مضمومة وزاي مشددة مفتوحة) وهم ناس (الضهرة) الذين ينزلون سنوياً بمناطق الباجور في بداية موسم لقيط القطن، حيث يبنون منازل من القصب في وسط الحواشات، ويبقون هناك إلى نهاية الموسم الزراعي ثم يعودون إلى قراهم ومناطقهم الأصلية، وقد كان حوى النبي ينزل في باجور العريجاء سنوياً مع أهله ناس المجير، وذلك قبل أن يستوطن في العريجاء...
من طرائفه في طفولته أنه جاء يوماً إلى جده كرم الله (عليه رحمة الله) وكان قد بلغ من الكبر عتيا، جاءه يحمل حلاوة (دربس)، وخاطبه قائلاً: (جدي كرم الله أديك معاي حلاوة دربس) ؟؟ فرد عليه جده قائلاً: (يا خالد يا ولدي أنا ما باكل اللصاصيق دي)، وظل خالد يلح على جده حتى أقنعه بتناول حبة واحدة من حلاوة دربس .. فلما تذوق ذلك الشايب الحلاوة وتلمظها، قال مخاطباً ابنه خالد: (والله يا خالد يا ولدي كان جبت لي بي تعريفة) .. علماً بأن التعريفة كنا نشتري بها خمس حبات من حلاوة دربس من ضمنها تلك الحبة الخضراء ذات النعناع المركّز...
ومن طرائفه في طفولته أيضاً أنهم أغضبوا الأستاذ عبد الله الزين في أحد الأيام، فقرر معاقبتهم جميعاً، وكانوا مجموعة تلاميذ بمن فيهم ابن عمه أحمد محمد كرم الله (أبو الحسن)، فعندما بدأ الأستاذ بجلد أبا الحسن، ما كان منه إلا أن قفز على الشباك، وخاطب الأستاذ بقوله: (أنا ما داير قراية) ثم قفز خارجاً من الفصل... بعدها نادى الأستاذ على خالد لكي يأتي ويأخذ عقابه، فجاء خالد من آخر الفصل وهو يلوح بكلتا يديه ويقول: (فندي حتَّنا ما داير قراية) .. حكى لنا هذه القصة كل من فضل المرجي وعلي الجاك وكلاهما كانا زملاء لخالد في الفصل.
حالياً يوجد حي عريجاوي كامل بمنطقة أم ضريوة بالخرطوم بحري .. والفضل في وجود هذا الحي يعود – بعد الله سبحانه وتعالى – إلى خالد موسى (عليه رحمة الله)، فهو أول من ارتاد المكان، واستوطن به، ثم مهد السبيل لكافة إخوته وأهله وذويه لكي يمتلكوا أراضي وبيوت في الحي، إذن فهو المؤسس الأول لذلك الحي العريجاوي البحراوي...
ألا رحم الله الأخ خالد موسى، وجزاه بالحسنات إحسانا، وبالسيئات عفواً وغفرانا، وأنار له في قبره ووسّع له فيه، ولقنه حجته بين يديه، وأمَّنه من الفزع الأكبر، وأدخله الجنة بلا سابقة عذاب ولا مناقشة حساب ... ونقله ومن معه من موتى المسلمين من ضيق اللحود ومراتع الدود إلى سعة جناته جنات الخلود، في سدر مخضود، وطلح منضود، وظل ممدود، مع المقربين الشهود، الركع السجود، الموفين بالعهود، ورحمنا إذا صرنا إلى ما صاروا إليه، وإنا لله وإنا إليه راجعون ...